Site icon IMLebanon

هيئة التنسيق النقابية: خسارة معركة رابحة

هاني مسعود
view counter
عبّر التحالف الطبقي- الطائفي المسيطر في لبنان، في مناسبات عدّة، عن قلقه البالغ من ان تنجح هيئة التنسيق النقابية في توسيع رقعة تمثيلها الاجتماعي، كشرط لاعادة بعض التوازن المفقود. عمل سريعا على حل معظم التباينات بين مكوناته للمحافظة على تماسكه. كرس من أجل ذلك إمكاناته وادواته في السلطة والاعلام، وتمكن من نقل النزاع من صفوفه إلى صفوف الهيئة الهشّة اصلا. عمد إلى تفريغ حق الإضراب في الإدارة العامة من مضمونه وفعاليته، فالإدارة بقيت تتابع أعمالها في ظل الاضرابات، وازدهر دور السماسرة والوسطاء.

جرى تأليب الرأي العام ضد مقاطعة الامتحانات الرسمية، وجُردت الهيئة من سلاحها الأمضى الذي هددت به لتحقيق مطالبها. ليس هذا فحسب، بل جرى الدفع مجددا بما يسمى «أجندة الإصلاح الاقتصادي»، فاستُخدم مطلب تصحيح الأجور حجّة لفرض الزيادة على ضريبة القيمة المضافة، ولمحاولة فصل التشريع بين القطاعين العام والخاص وزيادة دوام العمل دون أجر.
على الرغم من ان هذا التحالف حقق مكاسب عدّة حتى الآن، لم يتوقف عن عرقلة مسار إقرار «السلسلة» في المجلس النيابي. يشير معنيون الى ان التأجيل لم يعد له علاقة بمطلب تصحيح الأجور، إنما بات يتصل بصراعات تتعلق بصلاحيات المجلس النيابي والمحاصصة (ولا سيما في مجال النفط) وتسوية المخالفات الدستورية والقانونية في مجال صرف المال العام واستثمار الاملاك العامة. مع كل ما يعنيه ذلك من إعادة توزيع طائفي للريوع، اذ لم يعد خافياً على أحد، أن قوى السلطة، التي استخدمت – ولا تزال – تحركات الهيئة ومطالبها المحقة، تحاول انتزاع المزيد من المكاسب والريوع وتوزيع الفُتات منها على الاتباع والمناصرين.

الرضوخ لتوزيع الأدوار

سوء استخدام السلطة عززه غياب آليات المحاسبة الديمقراطية والشفافة، واهمها وجود حركة عمالية نقابية ديمقراطية ومجتمع مدني فاعل قادرين على الضغط من أجل إعادة توزيع فعلي للثروة. هذا الغياب دفع هيئة التنسيق النقابية، بمكوناتها وتحالفاتها، الى استسهال الرضوخ لتوزيع الأدوار بين ممثلي قوى السلطة، بين طرف «طيّب» يسعى إلى حل، وآخر يؤدي دور الشرير والمعارض لأي تصحيح للأجور. في الواقع، يرى بعض الناشطين في الهيئة ان الوقوع في هذا الفخ يعكس اساسا هشاشة التركيبة التي تقوم عليها الهيئة، وسذاجة قيادتها التي تفتقر الى الرؤية والاستراتيجية الواضحتين.
كانت موافقة الحكومة اللبنانية على قرار وزير التربية بإصدار إفادات لجميع طلاب الشهادات الرسمية العامة والمهنية أمراً متوقعاً منذ البداية. ومع ذلك، مثّل القرار صدمةً قاسيةً لجميع مكونات الهيئة، وفي مقدمها رابطة اساتذة التعليم الثانوي الرسمي، وهي الطرف الاوسع تجربة. لقد تعامل الجميع مع «جولة» الإفادات وكأنها نهاية المعركة، وذلك بسبب عدم وجود اي خطة عملية بديلة.

تعامل الجميع كأنها نهاية التحرك. سارع كل طرف إلى الدفاع عن مطالبه الخاصة منفردا، بل إن هناك من خرج ليقول بخطأ خوض معركة تصحيح الأجر على نحو مشترك، وآخرين القوا باللوم على رابطة اساتذة التعليم الثانوي ورئيسها حنّا غريب، بسبب خسارة سلاح مقاطعة الامتحانات الرسمية، فيما المشكلة تكمن في عدم وجود رؤية مشتركة لطبيعة المعركة. بدا جلياً أن أطرافاً عدةً كانت تتوقع معركةً سهلةً، وكانت مطمئنة للوعود التي اغدقتها الأطراف «الطيبة» على الموظفين. يرى متابعون أن قيادة هيئة التنسيق النقابية تتحمل مسؤوليةً أساسيةً في وصول الوضع إلى ما هو عليه اليوم، ولكن المسؤولية الأكبر تتحملها ايضا القوى المدنية التقدمية من احزاب ديمقراطية ويسارية ومنظمات المجتمع المدني ذات الصدقية، التي كان عليها أن تؤدي دوراً فعلياً في دعم وتجذير مواقف الهيئة عبر مدها بالخبرات السياسية والتنظيمية اللازمة. ولعل أبرز من يتحمل المسؤولية هو ما يسمى «الاتحاد العمالي العام»، الذي لم يكتف بمهاجمة تحركات هيئة التنسيق النقابية، بل تآمر عليها أيضا تبريراً لتخاذله وخدمته للتحالف الحاكم.
كتلة معادية

التذبذب في حسم خيارات هيئة التنسيق النقابية، والضبابية في اتصالاتها، ساهما في إحباط شرائح واسعة استطاعت الهيئة تعبئتها في نضالها من أجل تصحيح الأجر، وعجّلا بانفكاك الفئات الضعيفة الخبرة في النضال الاجتماعي والمرتبطة بعلاقات زبائنية مع التحالف الطبقي – الطائفي. ومثّلت هذه الفئات خطورةً في تحولها إلى كتلة معادية لعمل الهيئة من داخلها وخارجها. إن فشل الهيئة في الخروج من كونها «تحالف الضرورة» ادّى إلى فشل مواز في تقديم نفسها ممثلاً فعليا لفئات اجتماعية عريضة قادرة على ضوغ خيارات سياسية واقتصادية بديلة لتلك السياسات المدمرة التي ينتهجها التحالف الحاكم. استفادت قوى السلطة من تردد قيادة الهيئة في التقاط الفرصة التاريخية لتعبئة القوى الاجتماعية المتضررة من النظام القائم، فيما عجزت الهيئة عن استنباط برنامج عمل موحد وشعارات موحدة تتخطى مطالبها الفئوية المباشرة، فابقت الباب مفتوحا امام السلطة للمحافظة على سياسة التجزئة والتفتيت في التعامل مع قضايا الطبقة العاملة.
عجزت قيادة هيئة التنسيق النقابية عن الاستفادة من تجربتها النضالية المشتركة، وغفلت عن ان رفع شعار الوحدة النقابية، كشرط أساسي لمواجهة تحالف السلطة وتحقيق مطالبها، لا يمكنه أن يستقيم إذا ما بقي مفهومها للوحدة فارغا في مضمونه. فالوحدة النقابية تتطلب تحقيق شروط لا يمكن الاستغناء عن واحد منها لمصلحة شرط آخر. فلا وحدة بدون ديمقراطية داخلية وهياكل ممثلة وحرية في اتخاذ القرار واستقلالية كاملة عن اصحاب العمل والحكومة… فالوحدة التي تقام على أساس التوازن الطائفي والمصلحي والحزبي هي العلّة التي يمكن من خلالها تفجير وإفشال أي وحدة نقابية فعلية وحقيقية.
كان على هيئة التنسيق النقابية ان تعيد تقويم دورها وقوتها التمثيلية، وبالتالي ان تدرس المعوقات التي تحول دون تحولها إلى إطار نقابي يجمع تحت مظلته كل فئات العاملين بأجر في لبنان بعيداً عن أي تمييز أو إقصاء. وهنا فقط، يمكن الحديث عن بناء حركة نقابية ديمقراطية مستقلة وحرة بديلة بعيدة عن الزبائنية والانقسامات الطائفية والمصلحية. إن مسار قضية تصحيح الأجور يؤكد ان هيئة التنسيق كانت أمام معركة ليست سهلة، لا تنتهي بإقرار تصحيح الأجور، وخاصة انها تخاض في ظل غياب حركة سياسية، مدنية وتقدمية، تمثل رافعة وحاضنة للنضال الاجتماعي، كما تخاض في ظل تعنت التحالف الطبقي – الطائفي الحاكم الرافض لأي حوار جدي يتناول مصالحه.

تصحيح الخلل
المعركة لم تحسم بعد، وإن كانت الهيئة قد خسرت واحداً من اسلحتها، إلا أن الفرصة لا تزال متاحة امام هيئة التنسيق النقابية وقيادتها من أجل تصحيح الخلل الذي شاب مسيرتها النضالية وتجربتها المميزة في قيادة الحركة العمالية والشعبية من أجل مستقبل أفضل.غير أن تحقيق ذلك لا يمكن أن يجري دون تقويم للمرحلة السابقة والخروج بدروس مفيدة وإجراء التعديلات المطلوبة على ضوئها. إن تعديل بنية الهيئة وآليات عملها لتمكينها من بناء قوة اجتماعية واسعة التمثيل وقادرة على إحداث توازن اجتماعي يحقق ما هو ابعد من المطالب الجزئية والفئوية أصبح شرطاً أساسياً لتجاوز نتائج المعركة الأخيرة. على الهيئة ان تعد نفسها لأداء دور «مركز استقطاب عمالي» يؤسس لقيام الحركة النقابية الديمقراطية. هذا يمثل شرطاً رئيسياً لمواصلة النضال من أجل تحقيق مجتمع العدالة والمساواة ودولة القانون. وتتحمل هيئة التنسيق النقابية في هذا المجال مسؤولية تاريخية للعمل من أجل بناء الحركة النقابية الجديدة، حركة تضم جميع العاملين بأجر، سواء في القطاع العام أو الخاص أو في الاقتصاد غير النظامي. حركة قادرة على استقطاب الشباب والنساء، ومستعدة للدفاع عن مصالح العمال المهاجرين وغيرهم من الفئات المفقرة والمهمشة. حركة قادرة على انتزاع الحريات والحقوق النقابية وتأمين الحماية والعدالة الاجتماعية للجميع، بعيداً عن أي استغلال أو إقصاء أو قهر.