استعدّت الأسواق لزيادة التقلّب، حيث تُشير البنوك المركزية إلى أن النهاية قريبة لفترة السيولة غير المحدودة، وأسعار الفائدة المنخفضة التي غيّرت سلوك المستثمرين. في الأعوام الستة منذ انهيار بنك ليمان براذرز، تمسكت الأسواق المالية العالمية بيقين واحد: أن البنوك المركزية كانت بمثابة أصدقائها، وأنها على استعداد لدعم أسعار الأصول، ونشر قوة غير محدودة لاحتكار طابعة الأموال.
قوة إجراءات البنوك المركزية – أو غالباً، مجرد التلميح أنها قد تتصرف – حركت اندفاعات مثيرة للإعجاب في أنحاء الأسواق كافة. بعد الوصول إلى انخفاض ما بعد الأزمة في آذار (مارس) عام 2009، ارتفعت أسعار الأسهم الأمريكية إلى أعلى ذرواتها السابقة، مع ارتفاع مؤشر ستاندارد آند بورز 500 بنسبة 170 في المائة. مؤشر فاينانشيال تايمز لعموم الأسهم العالمية ارتفع بنسبة 130 في المائة خلال الفترة نفسها. أما عائدات السندات، التي تتحرك بشكل عكسي مع الأسعار، فقد انخفضت إلى أدنى مستوياتها التاريخية؛ في الكثير من مناطق أوروبا القارية يدفع المستثمرون من الناحية العملية الفائدة إلى الحكومة على القروض قصيرة الأجل.
حتى في خضم الاضطراب من أزمة منطقة اليورو وفترات عدم الاستقرار السياسي العالمي، رأى المستثمرون البنوك المركزية أنها مرساة الاستقرار. النهاية المتوقعة لبرنامج التسهيل الكمي من الاحتياطي الفيدرالي هذا الشهر – الذي وسّع ميزانية البنك المركزي العمومية إلى 4.45 تريليون دولار – سوف يمثّل اللحظة التي يتم فيها رفع تلك المرساة.
في حين أن التدهور في الاقتصاد الأمريكي لا يزال يمكن أن يضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة تفعيل برنامج التسهيل الكمي مرة أخرى، إلا أنه من الأرجح أن تكون خطوته التالية هي رفع هدف أسعار الفائدة، التي استقرت قرب الصفر لنحو ستة أعوام. المرة الأخيرة التي زاد فيها الاحتياطي الفيدرالي بزيادة أسعار الفائدة كانت في عام 2006. نهاية برنامج التسهيل الكمي تزعزع منذ الآن الأسواق. مع تحوّل التوقعات الاقتصادية العالمية لتكون أكثر تشاؤماً بشكل واضح – حيث حذّر صندوق النقد الدولي قبل أسبوعين من حقبة جديدة أو نمو متوسط – يستعد المستثمرون لأوقات أصعب.
لقد تراجع مؤشر الأسهم العالمية بنسبة 9 في المائة منذ أوائل أيلول (سبتمبر). كما شهدت العائدات على سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشرة أعوام، التي تتحرك بشكل عكسي مع الأسعار، يوم أمس تمايلاً مفاجئاً يصل إلى ما دون 2 في المائة – وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عام.
نظراً لعدم اليقين بشأن ما سيحدث بعد ذلك للاقتصادات العالمية والأنظمة المالية – المجهول غير المعروف فضلاً عن المجهول المعروف – فإن المزيد من الاضطرابات أمر لا مفر منه.
يُحذّر جورج ماجنوس، كبير الاقتصاديين السابق في بنك يو بي إس، من “أن النظام النقدي الحالي هو بمثابة عادة بالنسبة لنا جميعاً، حيث إذا عمدت إلى تغيير النظام ينبغي ألا تفاجأ إذا كان الرد الأولي متطرفاً للغاية”.
يقول كيث سكيوتش، الرئيس التنفيذي في شركة ستاندارد لايف إنفيستمنت لإدارة الأصول: “إن السؤال الآن هو، ما العواقب غير المقصودة؟ وكيف سنتعامل مع انتهاء برنامج التسهيل الكمي؟ هذا الجزء من التجربة ليس مفهوماً في الواقع منا أو من خبراء الاقتصاد”.
بن برنانكي الرئيس السابق لـ «الاحتياطي الفيدرالي».
الطريقة التي ستتفاعل فيها الأسواق المالية ستساعد على تحديد النجاح أو خلاف ذلك، في حال هجوم سياسة غير مسبوق من قِبل البنوك المركزية. إلى جانب برنامج الاحتياطي الفيدرالي، أغرق البنك المركزي الأوروبي النظام المالي في منطقة اليورو بالسيولة، كما أطلق نظيراه البريطاني والياباني سياسات نشطة من برنامج التسهيل الكمي. لقد كان الهدف تجنّب كارثة اقتصادية وضمان حُسن سير الأسواق. الانتقال السلس نسبياً إلى إطار عمل سياسة أكثر طبيعية يمكن أن يُساعد النمو الاقتصادي العالمي، من خلال تعزيز ثقة المستثمرين والسماح للأسواق بتوجيه الموارد المالية إلى الاقتصاد الحقيقي. مع ذلك، الأوقات الصعبة بإمكانها إزالة التقدّم الضعيف الذي تم إحرازه حتى الآن – إضافة إلى تغذية المخاوف من أن برنامج التسهيل الكمي قد أخفى نقاط ضعف خطيرة في النظام المالي، تاركاً الأسواق كثيرة الاعتماد على دعم البنك المركزي، وببساطة أوجد الظروف للأزمة التالية.
نادراً ما يكون من السهل التعامل مع نقاط التحوّل في دورة أسعار الفائدة. أكسيل فيبر، رئيس مجلس إدارة بنك يو بي إس والرئيس السابق للبنك المركزي الألماني، حذّر في واشنطن الأسبوع الماضي، قائلاً: “تاريخياً، لطالما تسبب تشديد السياسة النقدية الأمريكية في بعض التداعيات بالنسبة للاقتصاد العالمي – بشكل منتظم ومستمر. نصيحتي للمستثمرين هي: ربط الأحزمة”.
في عام 1994، تسبّب التشديد الحاد بشكل غير متوقع للسياسة النقدية الأمريكية في فوضى في أسواق السندات. ومنذ ذلك الحين واصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أساليبه في التواصل مع الأسواق – وهو يسير بحذر شديد هذه المرة، من خلال بعث رسائل واضحة، من أن أول ارتفاع في أسعار الفائدة الأمريكية، ربما يبعُد ستة أشهر على الأقل. تحدّي مجلس الاحتياطي الفيدرالي في قيادة العالم نحو حقبة ما بعد التسهيل الكمي، يعتبر معقدا بشكل خاص. بدايةً، الاقتصاد العالمي لا يزال في مرحلة حرجة. وفي حين أن الاقتصاد الأمريكي ينتعش، إلا أن أوروبا قد تكون على طريق العودة إلى الركود، ونقاط الضعف واضحة في الأسواق الناشئة.
إلى حد ما، السياسات النقدية الأكثر مرونة في اليابان ومنطقة اليورو، يمكن أن تكون بمثابة قوة موازنة لتحوّل مجلس الاحتياطي الفيدرالي نحو ارتفاع حتمي في أسعار الفائدة. مع ذلك، قد تظل هناك تحركات مفاجئة في أسواق العملات.
جانيت يلين ..الرئيسة الحالية لـ «الاحتياطي الفيدرالي».
يُحذّر محمد العريان، كبير المستشارين الاقتصاديين في شركة أليانز، شركة التأمين الألمانية: “بالتأكيد هناك خطر حدوث مضاعفات خطيرة في هذا العالم المتعدد المسارات للبنوك المركزية. من خلال الحكم من التاريخ، تعديلات العملات الحادة والسريعة غالباً ما تنتهي بتحطيم شيء ما”.
وحيث إن أسعار الفائدة كانت منخفضة جداً لفترة طويلة، فإنه حتى زيادة صغيرة مُطلقة يمكن أن يكون لها تأثير أكبر بكثير مما كان في الماضي.
كما أن التسهيل الكمي ربما غيّر أيضاً الطريقة التي تعمل بها الأسواق. الحجم الهائل من عمليات البنوك المركزية يعني أنها غالباً تقوم بعمل الأسواق، بوصفها أهم المُقرضين، أو مشتري الأصول. من خلال الإغراق المتعمد للنظام المالي، تعطلت أيضاً الطريقة التقليدية للتحكّم في أسعار الفائدة – عن طريق تقنين الوصول إلى السيولة. بما أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يتجه نحو رفع أسعار الفائدة، سيكون عليه استعادة السيطرة على تكاليف الاقتراض في السوق.
يقول مانموهان سينج، خبير البنية التحتية للأسواق في صندوق النقد الدولي: “إن البنوك المركزية قد تدخلت في النظام الأساسي”. ويُضيف أن هدف مجلس الاحتياطي الفيدرالي المعتاد – “سعر الفائدة الأساسي الرسمي” – لم يعُد مؤشراً جيداً للظروف المالية. ويختم قائلاً: “يبدو الأمر تقنياً لكنه مهم – حيث سيتردد صدى الآثار في أنحاء الأسواق العالمية كافة”.
كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي يملك الكثير من الوقت للاستعداد ويختبر أساليب جديدة للتحكم في تكاليف الاقتراض، لكن التواصل مع الأسواق سيصبح أكثر قلقاً مع اقتراب أول رفع لأسعار الفائدة.
كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا جعلا تقديم سياسات نقدية أكثر شدّة مشروطاً بتحسن البيانات الاقتصادية، التي تعتبر طريقة أخرى للاعتراف بالعديد من الأمور المجهولة. يقول ماجنوس: “سوف يتطلب الكثير من المهارة من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي ويفترض أيضاً من جانب بنك إنجلترا لإيصال ما في أذهانهم إلى الأسواق – هذا إذا كانوا يعرفون حقاً ما في أذهانهم”.
حتى الانعطاف الصغير نسبياً يمكن أن يسبب المتاعب. تعليق في عام 2013 من قِبل بن برنانكي، رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الحين، ألمح فيه إلى خطط من أجل “الانسحاب التدريجي” لبرنامج التسهيل الكمّي لعمليات شراء السندات، أدّى إلى تحوّل مفاجئ في تدفقات رأس المال الداخلة إلى الأسواق الناشئة.
بعد أعوام من عائدات السندات المنخفضة بسبب برنامج التسهيل الكمي، عمد المستثمرون إلى إدخال الأموال إلى اقتصادات أكثر خطراً بحثاً عن عائدات أعلى، لكن تصريحات برنانكي عملت على تغيير رأيهم.
الاضطراب أبرز كيف أصبحت أسواق رأس المال المترابطة، مع تحويل المستثمرين الأفراد – أو غير المحترفين – المحافظ بسرعة عند أول بادرة على وجود المتاعب.
تبيّن أن ما يسمى “عاصفة الانسحاب التدريجي” قصيرة الأمد نسبياً، كما تم سحب برنامج التسهيل الكمي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بشكل تدريجي مع قليل من المفاجآت الحقيقية.
يجادل كثير من المحللين أن رأس المال الحرّ قد تلاشى، وقد تعلّم المستثمرون من التجربة، وأن أسعار أسهم وسندات الأسواق الناشئة ينبغي أن تعكس بشكل أفضل “أساسيات” الاقتصادات المحلية.
يقول جيراردو رودريجيز، وهو مدير محفظة في شركة بلاك روك ومسؤول سابق في القطاع المالي المكسيكي: “إن فروقات النمو في النهاية هي ما تقود رأس المال من مكان إلى آخر”.
لقد كان الهدف المتعمد لبرنامج التسهيل الكمي هو تشجيع المجازفة باعتبارها وسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي.
يقول هارم باندولز، كبير الاقتصاديين عن منطقة أمريكا في بنك يوني كريدت: “لقد رفع برنامج التسهيل الكمي أسعار الأصول الخطرة بشكل لافت للنظر، لكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لن يرى ذلك بمثابة تشويه، إنه تماماً ما أراده”.
في حزيران (يونيو)، حذّر بنك التسويات الدولية في بازل – الذي يعتبر بمثابة بنك للبنوك المركزية – من أن الأسواق “المبتهجة” قد أصبحت منفصلة عن الواقع الاقتصادي. يُضيف العريان: “تتعلق المسألة بشكل أقل ببرنامج التسهيل الكمي في حد ذاته بقدر ما تتعلق بأي مدى اختارت البنوك المركزية، التي تتصرف دون دعم غيرها من صنّاع السياسة، النمو الناجم عن السيولة مجازفة بحدوث عدم استقرار مالي في المستقبل”.
الأقل وضوحاً هو إلى أي مدى قام برنامج التسهيل الكمي بتغيير سلوك المستثمرين. الميزة البارزة هذا العام، حتى الأسابيع الأخيرة، كانت عدم وجود تقلّب في الأسواق المالية في أوقات التوترات الجغرافية السياسية المتزايدة – سواء كان بسبب توغّل روسيا في أوكرانيا، أو الفوضى في العراق، أو المظاهرات المؤيدة للديمقراطية في هونج كونج. تفسير واحد هو أن الأسواق كانت مفتونة بالاعتقاد أن البنوك المركزية سوف تنقذها دائماً. كما يحذّر ماجنوس من أن المستثمرين قد أصبحوا معتادين على عالم من السيولة غير المحدودة. “إذا غيّرت ذلك ستغير كامل علم نفس الاستثمار”. يُضيف سكيوتش: “الأثر الهيكلي (لبرنامج التسهيل الكمي) في الاقتصادات والأسواق ليس مفهوماً جيداً على الإطلاق، فنطاق عدم اليقين واسع”.
مع ذلك، هناك اتفاق واسع النطاق على أن تقلّب الأسواق من المرجح أن يرتفع ليقترب من هامش أسعار الفائدة الأمريكية الأعلى.
في الماضي، غالباً ما كانت الأزمات تتبع فترات كانت فيها أسعار الفائدة منخفضة نسبة إلى معدلات النمو الاقتصادي – على سبيل المثال، في الولايات المتحدة تماماً قبل انهيار فقاعة الدوت كوم في مطلع القرن، أو في ألمانيا في بداية التسعينيات قبل أزمة معدل الصرف في القارة.
يقول بنجامين مانديل، خبير الاقتصاد الأمريكي في “سيتي جروب” في نيويورك: “إنه من الطبيعي الشعور بالقلق نظراً لأن التاريخ يُظهر أنه عندما ’تنخفض‘ أسعار الفائدة كثيراً، تحدث أمور سيئة”. إن عدم اليقين بشأن الطريقة التي ستواجه فيها الأسواق انتهاء السياسات النقدية المكافحة للأزمة، هو الأكبر لأنها تتزامن مع الاضطرابات في اللوائح التي تؤثر في النظام المالي العالمي. الهدف كان تعزيز مرونة النظام – لكن تغير القواعد قد يؤدي إلى عواقب غير مقصودة.
على سبيل المثال، لجعل البنوك أكثر أماناً، يحتفظ متداولو السندات الآن “بمخزون” قليل نسبياً – حيث يتم الاحتفاظ بأكوام من السندات لتلبية الطلبات بسرعة، خاصة سندات الشركات.
نتيجة لذلك، يجادل ألبرتو جالو، خبير الاستراتيجية في بنك اسكتلندا الملكي، بأن الأسواق “لديها الآن مشكلة بنك ليمان نفسها”. إذا اختفت الثقة بالأسواق، يمكن حدوث “أزمة سيولة”. يقول جالو: “إن متداولي السندات لا يستطيعون توفير السيولة ويجازفون بصورة أقل”.
عندما ترتفع حدّة التوترات، قد يكون الباعة اليائسون قادرين على ذلك من خلال خفض الأسعار – تحويل حدث صغير إلى شيء أكبر بكثير.
يقول ريتشارد براجر، رئيس قسم استراتيجيات التداول والسيولة في “بلاك روك لإدارة الأصول”: “إن أسعار الفائدة المنخفضة غذّت إصدار (السندات)، التي تُخفي كل أنواع الأشياء في الأسواق، وهذا ما يُشعرنا بالقلق. ماذا سيحدث عندما ترتفع أسعار الفائدة ويحتاج المستثمرون إلى بيع السندات؟ دون عوامل امتصاص الصدمات، سيكون لديك احتمال إعادة تسعير بشكل غير مُنظّم”.
هذا الشعور من القلق كان واضحاً في الأسواق. لقد بلغ مؤشر فيكس لتقلّب أسواق الأسهم الأمريكية – المعروف باسم “مؤشر الخوف” في وول ستريت – إلى مستويات لم نشهدها منذ أزمة منطقة اليورو.
تستمع الأسواق الآن بحذر لتصريحات مجلس الاحتياطي الفيدرالي وغيره من مسؤولي البنوك المركزية، على أمل أن يكون هناك تأخير في تشديد السياسة النقدية. وأي إشارات عن المزيد من التسهيل في السياسة النقدية تُعتبَر الآن إيجابية من قبل بعض المستثمرين على الأقل – حتى وإن كانوا يتابعون الأنباء الاقتصادية الرديئة. هناك اقتراح قبل أسبوعين من أحد مسؤولي مجلس الاحتياطي الفيدرالي من أن جولة جديدة من التسهيل الكمي لا تزال ممكنة في الولايات المتحدة، وهو ما عمل على تثبيت الأسواق لفترة قصيرة.
هناك يقين جديد ربما بدأ يحل على الأسواق: عاد التقلب، وعلاقتها مع البنوك المركزية في حالة تغير، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها.