مايكل سبنس (حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، وكبير زملاء معهد هووفر.)
جهود مكافحة تغير المناخ والنمو الاقتصادي
طالما اعتبر التحرك للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتخفيف حدة تغير المناخ متعارضا بشكل جوهري مع النمو الاقتصادي. وكثيرا ما يُستشهد بهشاشة التعافي الاقتصادي العالمي مبررا لتأخير مثل هذا التحرك.
لكن التقرير الحديث الذي أصدرته المفوضية العالمية للاقتصاد والمناخ بعنوان “اقتصاد المناخ الجديد: نمو أفضل ومناخ أفضل”، يدحض هذا المنطق.
فقد خلص هذا التقرير إلى أن الجهود الرامية إلى مكافحة تغير المناخ لا تضر بالنمو الاقتصادي، بل إنها في حقيقة الأمر من الممكن أن تساعد في تعزيز النمو إلى حد كبير، وفي وقت بسيط نسبيا.
وكل من درس الأداء الاقتصادي منذ اندلاع الأزمة المالية في العام 2008 يدرك أن الضرر الذي لحق بالميزانيات العمومية من الممكن أن يدفع النمو إلى التباطؤ، أو التوقف المفاجئ، بل وحتى الانتكاس.
ويعلم المطلعون على النمو في البلدان النامية أن نقص الاستثمار في رأس المال البشري والبنية الأساسية والقاعدة المعرفية والتكنولوجية للاقتصاد من الأسباب التي قد تفضي في نهاية المطاف إلى ميزانيات عمومية غير قادرة على دعم النمو المستمر.
ولا يختلف تغير المناخ كثيرا عن أنماط النمو المعيبة وغير المستدامة هذه، فهو أيضا يمثل مشكلة موازنة عامة في الأساس، تقوم على المخزون من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
وعلى المسار الحالي، لن يمر على العالم سوى ثلاثة إلى أربعة عقود من الزمان قبل أن يبلغ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مستويات كافية لتعطيل أنماط المناخ، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب مأساوية مدمرة للبيئة وبالتالي الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. والواقع أن السماح لرأس المال الطبيعي -الموارد والأنظمة الإيكولوجية البيئية التي ترتكز عليها هذه الأنظمة- بالنضوب يعد في الأساس شكلا آخر من أشكال نقص الاستثمار المدمر.
إن الكم الهائل من الأدلة العلمية التي تدعم التوقعات المناخية الحالية يجعل من غير المرجح أن يتخلى العالم عن التكيف تماما. ولكن حل مشاكل التنسيق والتوزيع المعقدة التي سوف تولدها مثل هذه التعديلات لن يكون سهلا، والواقع أن صناع السياسات، الذين هم على اقتناع بأننا لا نستطيع أن ندبر إستراتيجية قوية لتخفيف آثار تغير المناخ في وقت حيث نواجه العديد من التحديات الأخرى الملحة، ربما يستسلمون لإغراء تأجيل العمل على الأرض.
سرعة العمل تقلل الكلفة
ويزعم “اقتصاد المناخ الجديد” أن هذه فكرة سيئة للغاية، والواقع أن التقييم الشامل الذي أورده التقرير للبحوث والتجارب والإبداعات الحديثة يقودنا إلى استنتاج لا لبس فيه بأن العمل الآن سوف يكون أقل تكلفة كثيرا من الانتظار. بل إن العمل الآن يكاد لا يكون مكلفا على الإطلاق.
فلا تبدو مسارات النمو الاقتصادي المنخفضة الكربون مختلفة كل هذا الاختلاف عن المسارات المرتفعة الكربون إلى أن تنحرف الأخيرة بشكل حاد إلى هاوية الفشل المأساوي.
وبعبارة أخرى، فإن صافي تكاليف خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من حيث النمو والدخل وغير ذلك من قياسات الأداء الاقتصادي والاجتماعي ليست مرتفعة على الإطلاق في الأمدين القريب والمتوسط. ونظرا لما نعلمه من العواقب التي قد يخلفها المسار المرتفع للكربون على البيئة الطبيعية، وبالتالي على النتائج الصحية ونوعية الحياة، فإن هذه التكاليف قد تكون في واقع الأمر سلبية.
ولكن هناك تحفظ مهم، فلا بد أن يبدأ التحرك على وجه السرعة، ذلك أن التكاليف الاقتصادية المترتبة على العمل على تخفيف حدة تغير المناخ ترتفع مع تأخير العمل، فإذا أجلنا هذه التكاليف 15 عاما أو أكثر، فإن تحقيق أهداف التخفيف سوف يصبح مستحيلا بأي ثمن.
كيف ننتقل إذن إلى مسار منخفض الكربون؟ يشير التقرير إلى الفوائد المترتبة على تشييد المباني الموفرة للطاقة والبنية الأساسية اللازمة لدعم الاقتصاد العالمي المنخفض الكربون بحلول العام 2050، ودمج الإستراتيجيات المنخفضة الكربون في عمليات التخطيط الحضري، واستغلال إمكانات الإنترنت المعززة للكفاءة. وإذا أضفنا إلى هذا انخفاض تكاليف مصادر الطاقة البديلة والتقدم التكنولوجي الحثيث، فلن تصبح أهداف خفض الكربون بعيدة المنال أو مكلفة.
وبعد تقييم التقنيات والخيارات السياسية والتحليلات الواردة في التقرير، قد يستنتج المرء أن مسارات النمو المنخفض الكربون قد تكون منخفضة قليلا في الأمد القريب مقارنة بالمسارات المرتفعة الكربون، في ظل استثمار أعلى واستهلاك منخفض. ورغم هذا من الصعب أن نحكم عليها بأنها أدنى مرتبة، نظرا لمزاياها في الأمدين المتوسط والبعيد.
كما يسلط التقرير الضوء على سؤال آخر مهم في المناقشة بشأن المناخ: هل يشكل التعاون العالمي أهمية بالغة للتخفيف من حدة تغير المناخ؟
التنسيق السياسي الدولي شرط لتحقيق التقدم
وإذا تعاملنا مع أي اقتصاد بعينه، فهل يفضي العمل المنفرد إلى مسارات نمو متدنية بوضوح، ولنقل من خلال الإضرار بالقدرة التنافسية التي تتمتع بها قطاعاته القابلة للتداول؟ إذا كانت الإجابة هي “أجل”، فإن التنسيق السياسي الدولي سوف يبدو شرطا مسبقا ضروريا لتحقيق التقدم.
ولكن لا يبدو أن هذه هي الحال، ذلك أن جزءا كبيرا من الأجندة السياسية الوطنية التي تدعم تحول أي دولة منفردة إلى مسار منخفض الكربون (تعزيز كفاءة استخدام الطاقة على سبيل المثال)، لن تؤدي إلى تباطؤ اقتصادي، بل إن مثل هذه الجهود قد تؤدي حتى إلى ارتفاع معدلات النمو مقارنة بما قد يحققه البقاء على مسار مرتفع الكربون. ذلك أن المسارات المنخفضة الكربون تمثل الإستراتيجيات المهيمنة، وهو ما يعني ضمنا نظرة مختلفة تماما وأكثر إيجابية لهياكل الحوافز السائدة.
وهذا يعني أنه رغم كون التنسيق الدولي عاملا مهما في نجاح العمل على تخفيف حدة تغير المناخ في الأمد البعيد، فلا ينبغي لما ينطوي عليه من تعقيدات أن يعرقل التقدم. ونظرا لصعوبة تطوير وتنفيذ إستراتيجية عالمية، فإن هذا يعد خبرا سارا.
لقد أزالت الأدلة العلمية الشكوك المشروعة بشأن حجم المخاطر التي يفرضها تغير المناخ. والآن، يدحض تحليل المفوضية العالمية إلى حد كبير الحجج الاقتصادية الداعمة للتقاعس عن العمل. وإذا أضفنا إلى هذا القلق العام المتزايد بشأن تغير المناخ، فسوف يتبين لنا أن العمل الحاسم ربما بدأ بالفعل.