محمد كركوتي
سيكون لعام 2017 محور خاص في التاريخ من جهة الحرب المستعرة على المتهربين من الضرائب. وهو العام الذي تبدأ به 51 دولة غالبيتها أوروبية، بتبادل المعلومات حول الأرصدة المصرفية لرعاياها خارج نطاق حدود دولهم. الذي يرفع من أهمية هذه النقلة، أن بلدانا مثل سويسرا وإمارة ليختنشتاين وجزر العذراء البريطانية وجزر كايمان. وبعض من أشباه الدول الأخرى. فهذه البلدان لم تعد قادرة على المقاومة ضد الهجمة الغربية على وجه التحديد، لفتح الحسابات، سواء للبحث عن ضرائب أو للعثور على أموال قذرة بصور مختلفة. لقد استسلمت، ليس حبا في القوانين والإجراءات الجديدة، بل خوفا من عقوبات لا تقوى عليها، عقوبات قد تؤدي إلى “إغلاق” أبواب البلدان المشار إليها نفسها، ومعها مصارفها ومؤسساتها المالية المارقة.
ولعل اللافت أيضا، أن الولايات المتحدة لم تنضم إلى الدول الموقعة على اتفاق تبادل المعلومات المصرفية الخاصة بالأفراد، على الرغم من أن واشنطن، هي التي بدأت الحرب على التهرب من الضرائب، وأقرت في عام 2010 قانون “فاتكا” المعروف، وهو يماثل في حيثياته ومعاييره وقواعده طبيعة اتفاق الدول الإحدى والخمسين، بل إن قانون “فاتكا” نفسه، بات معتمدا من الدول الأوروبية وبعض أشباه الدول الأخرى. المسؤولون الأوروبيون يرون، أن للأمريكيين مناقشاتهم وطروحاتهم الخاصة بهذا الأمر، لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه أنه لن يحدث تعارض على الإطلاق على طرفي الأطلسي، بل على العكس، فالاتفاق يصب في صميم “فاتكا” والعكس صحيح. فإذا كانت واشنطن تبحث في مصارف الدول الأخرى عن حسابات مواطنيها، فإن العواصم الأخرى تستعد للبحث عن حسابات مواطنيها أيضا في الولايات المتحدة.
ولا شك أن التأخر الأمريكي في الانضمام إلى الاتفاق الـ (51)، يعود إلى أسباب إجرائية، خصوصا أن الاتفاق نفسه لن يدخل حيز التنفيذ قبل أيلول (سبتمبر) من عام 2017، وهناك ثلاث سنوات على الأقل، للوصول إلى صيغة مشتركة. فقد أثبتت الأحداث ومعها التطورات، أن إدارة باراك أوباما، أكثر الإدارات الأمريكية ملاحقة للمتهربين من الضرائب، بل استخدمت ما يعرف بسياسة “العصا والجزرة” منذ البداية مع البلدان التي أبدت ترددا في التعاون مع “فاتكا”. وسرعان ما استبدلت “الجزرة” بـ “العصا”، عندما وجدت مقاومة من الطرف الآخر، وهذا يعني أن الولايات المتحدة بإدارتها الراهنة، لن تتوانى عن أي تعاون في مجال التهرب الضريبي، فهي (كغيرها من البلدان الغربية الأخرى)، تعتقد أن الأموال الهاربة من الضرائب، تمثل محورا ماليا مهما لمواصلة محو آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصاداتها.
المنتدى الكبير الذي عقد في برلين أخيرا، وأنتج الاتفاق المذكور، حظي بتأييد 80 دولة، والدول التي لم توقع على الاتفاق ولكنها تؤيده، تعمل على تمهيد الطريق للتوقيع عليه في الوقت المناسب. هناك الكثير من القضايا القانونية والإجرائية وحتى السيادية تتعلق بتنفيذ الاتفاق كما هو، يتطلب بعضها اللجوء إلى البرلمان في بعض البلدان. وفي كل الأحوال، لا عودة عن الاتفاق، تماما مثلما لا عودة عن “فاتكا”. وكما قبلت بعض الدول العربية معايير القانون الأمريكي، فإنها قبلت القانون الأوروبي بهذا الخصوص، الأمر الذي يُدخل هذه الدول في صلب حراك الحرب على المتهربين من الضرائب، وهم في غالبيتهم من الرعايا الغربيين، كما أنهم ليسوا بالضرورة من أصحاب الملايين. فالقوانين الجديدة تلاحق حتى الموظفين ذوي الدخل المحدود.
يقول كالفين كوليدج الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة: “جني الضرائب بصورة تفوق الحاجة، ليس إلا عملية سطو قانونية”. والحق أن العالم الغربي بملاحقته المتهربين من الضرائب، لا يتقاضى أموالا زائدة، بل يحتاج إلى المزيد من الأموال لسد العجز في الموازنات العامة، والوصول بالإصلاحات الاقتصادية إلى المستوى المقبول، والأموال المتوقعة من الضرائب المفقودة هائلة بالفعل، ويمكن ببساطة أن تحدث فرقا في الموازنات المشار إليها. في تقديرات لمنظمة التعاون والتنمية الدولية المعروفة بـ OECD، حصلت 25 دولة على 47 مليار دولار من أموال الضرائب التي قام أصحابها بدفعها للسلطات المالية المختصة طواعية. وكلها تقريبا أموال جاءت من مصارف تتخذ من بلدان “الأوفشور” مقرات لها. ورغم أنه تم تحديد سبتمبر من عام 2017 موعدا لتنفيذ الاتفاق الأوروبي- الدولة، فقد سمح لبعض البلدان (ومنها سويسرا والإمارات وأستراليا) أن تبدأ بالتنفيذ في عام 2018. فقد أثبت الأوروبيون أنهم أكثر مرونة من الأمريكيين بهذا الصدد.
قبل نهاية العقد الجاري، لن تكون هناك ملاذات آمنة للمتهربين من الضرائب من الرعايا الغربيين. ولا يبقى أمام هؤلاء إلا البحث عن جنسيات أخرى والتخلي عن جنسياتهم الأصلية أو المكتسبة، وقد تكون وظائف شرائح من هؤلاء في بلدان لا تفرض ضرائب بلا مكاسب حقيقية، وربما وجدوا أن أعمالهم في بلدانهم الأصلية تقدم المزايا نفسها التي يحصلون عليها خارجها. من أهم الأشياء في قضايا “فاتكا” الأمريكية والأوروبية، أن البلدان “المتمردة ماليا”، لم تعد كذلك إلى الأبد.