باسكال لامي (المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، ومفوّض الاتحاد الأوروبي للتجارة)
للسيارات الأمريكية صدّامات أكبر من تلك التي لنظيراتها الأوروبية، ربما يبدو هذا من بين التفاصيل التافهة، ولكنه وغيره من التفاصيل الشبيهة، له تداعيات كبيرة في أوساط الدبلوماسيين المضطلعين بأمر مفاوضات اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي .
وقد كان فتح الأسواق يعني في أحد الأوقات إزالة العوائق والمحدّدات التي تحمي المنتجين المحليين من المنافسة الأجنبية، وأعطت السلطات الأوروبية والأمريكية الانطباع بأن التجارة والشراكة الاستثمارية عبر ضفتي المحيط الأطلسي إنما هي فقط مجرد اتفاقية أخرى للتجارة من النوع المعتاد، وفي الواقع فإن الاتفاقية المقترحة هي أمر مختلف تماماً .
فمعظم العوائق القديمة قد اختفت تقريباً، وتركّز المفاوضات التجارية في الوقت الحالي بدلاً من ذلك على إزالة التضارب بين النظم والإجراءات المفروضة في الأسواق الأمريكية والأوروبية، فهذه المحادثات إذاً لم تعد تجري حول إزالة الحماية؛ وإنما هي حول التناغم بين الإجراءات الوقائية التي تحمي المستهلكين .
ويختلف الاقتصاد السياسي الذي ينطوي على مثل هكذا مساع عما كان قبله أثناء المفاوضات السابقة، فإنك عندما تعمل على تقليل التعريفة الجمركية تجد أن المستهلكين يمجّدونك على تقليل ارتفاع الأسعار، في حين يشتكي المنتجون من أنك قد جردتهم من الحماية، وتختلف الأمور أكثر عندما نبدأ في الحديث عن التناغم الإجرائي .
يبدي المنتجون ابتهاجهم بالآفاق المرتقبة لمثل تلك التدابير التي ستكون لها انعكاسات جدية على أمور الصحة، والغذاء، والمنتجات المالية، والسيارات وكل شيء تقريباً، ولكنها تجعل المستهلكين قلقين لخوفهم من أنها قد تعني رفع تدابير الحماية الوقائية التي يستفيدون منها .
كيف يمكن لنا أن نأتي بمقاربة مشتركة ومقبولة بين النظم الإجرائية الأمريكية والأوروبية الموضوعة لذات الغرض، ولكنها لا تحمي المستهلكين دائماً بذات القدر أو بنفس الطريقة؟ هذه مسألة سياسية جدية، وأكثر صعوبة بكثير من المساومات حول التعريفة الجمركية .
كان الأوروبيون يتعاملون مع هذا التحدي منذ أن شرعوا في التفكير في إنشاء سوق أوروبية موحدة في أواسط عقد الثمانينات من القرن العشرين .
كما أن الفشل في توضيح أن مفاوضات الشراكة التجارية الاستثمارية عبر الأطلسي (تي تي آي بي) هي حول تناغم النظم الإجرائية هو تخبط كبير أيضاً، ويحتاج المفاوضون كذلك إلى أن يكونوا شفافين إذا ما أرادوا تهدئة مخاوف وشكوك العامة .
وتكمن عقبة سياسية أخرى في خطة السماح للمستثمرين بمقاضاة الحكومات بموجب العقد إذا ما شعروا بأن القوانين المحلية تهدّد استثماراتهم .
ويبدو أن المفاوضين قد أغفلوا النشطاء المناهضين للعولمة، فقد تمكنت هذه الأقلية الصاخبة من إقناع المستهلكين بأنه سيكون عليهم أن يتناولوا دجاجاً ملوثاً بالكيماويات وأطعمة غير عضوية، ومن أن يتم فرض قوانين حماية خصوصية البيانات الأمريكية عليهم، ويضاف ما تقدم من شأن النزاعات المحتملة بين المستثمرين والدول إلى هذا المزيج ليزيد من الإحساس الماثل بعدم الثقة .
وقد قلل الجانبان كذلك من التغيير الذي طرأ على الرأي العام الألماني . وعندما كنت مفوّضاً للتجارة في الاتحاد الأوروبي، في الفترة بين العامين 1999 إلى ،2004 كان يمكن الاعتماد على الرأي العام الألماني في دعم انفتاح تجاري أكبر، ولكن استطلاعات الرأي الحديثة تقترح أن الألمان يثقون في أمريكا بصورة تقل كثيراً عما كان في السابق، وهو “فال سيئ” لاتفاقية تطلب منهم أن يضعوا ثقتهم وإيمانهم في المشرّعين من الولايات المتحدة .
كيف يمكن لنا أن نعيد اتفاقية الشراكة التجارية الاستثمارية عبر الأطلسي إلى مسارها الصحيح؟ نحن محتاجون لاتباع نهج الشفافية، ويجب أن نوضح بصراحة وانفتاح أن 80% من هذه المفاوضات تتعلق بعالم التقارب التنظيمي .
كما يجب أن نضع في الاعتبار أنه وبينما إننا قد نجني بعض المكاسب مبكراً، فإن هذا هو مشروع طويل الأمد، وإذا كان سيتم السماح بالنزاعات القضائية بين المستثمرين والدول، فإنه ينبغي علينا أن نصنع لهم قضية أكثر جودة .
فعندما تكون هناك اختلافات بين النظم الإجرائية، يجب أن يقول المفاوضون إما أنهم سوف لن يمسوا بقواعد بعضهم بعضاً، أو أنهم سوف يتبنون الأكثر صرامة من بين إجراءات الحماية القائمة .
وأخيراً، فإن الطرفين يجب أن يتركا الباب مفتوحاً أمام إمكانية توسيع اتفاقية الشراكة التجارية الاستثمارية عبر الأطلسي لتشمل الدول الأخرى المهتمة بها في مقبل الأيام .
وإذا تجاوز الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هذه العقبات وتمكنا من إعادة الاتفاق إلى مساره الصحيح، فإن الطرفين يقفان على أعتاب التأسيس لعلامة فارقة في النظم العالمية سيكون لها أن تساعد على تحقيق وعود التجارة المفتوحة .