محمد الحسن
الطموح الأكثر رواجا في مدينة طرابلس هذه الأيام هو أن تكون توقعات البعض بديمومة الاستقرار في محلها، وأن تتمكن طرابلس من الخروج من دائرة الأزمات المتتالية التي تناوبت عليها منذ الأربعينيات وحتى يومنا هذا.
وفيما ينظر بعض الى المشهد الحالي بعين الأمل والتفاؤل، ينظر بعض آخر الى واقع الحال بعين القلق المرتبط بكثير من المعطيات محلية واقليمية، وبفعل استمرار الأزمة اللبنانية السياسية وحيث تبقى طرابلس صندوق بريد «من وإلى من يهمه الأمر».
وفي هذا الوقت تعرب أوساط طرابلسية واسعة الاطلاع عن ثقتها بأن الهزة الأمنية الأخيرة التي سجلت في المدينة غير قابلة للتكرار، وتلفت في هذا المجال الى انها تستند في توقعاتها الى وجود الجيش في عمق المدينة في الأسواق وفي التبانة، وان تمدد أي مجموعة مسلحة أمر مستبعد بعد الآن.
ولا تسقط هذه الأوساط من حسابها احتمال تحرك الخلايا النائمة وتسببها بأي توتر أمني، إلا أنها تذهب في هذه الحالة إلى حد القول أن هذا الأمر وارد إلا انه غير قابل للحياة وأن ملاقاته في أول الطريق وليس في منتصفها هو الاحتمال الأكثر قابلية للتداول.
وتعترف هذه الأوساط انها تتفاءل بقدر أكبر مما هو مفترض في ظل الأوضاع الراهنة على الساحة اللبنانية والاقليمية، إذا أن هذه المصادر تعترف ان طرابلس تشهد في كل مرة خروقات أو مواجهات غريبة عنها وأنها تزج في أتون النار عنوة وبعيدا عن رغبة أو توجه الغالبية الساحقة من أهلها وساكنيها، وتلفت إلى أنها أي المدينة في هذه الحالة إما تدفع فاتورة باهظة بالنيابة عن غيرها أو أنها تتحوّل الى صندوق بريد أو حتى انها تتحوّل بين ليلة وضحاها الى طريق نحو نصر خيالي لهذه الفئة أو تلك من الفئات المهلوسة بهلوسات النصر المحال الذي يأخذ الى عمق التاريخ أو الى صناعته.
تتابع الأوساط عينها مشيرة الى ان طرابلس هذه المرة وكما كل مرة أثبتت ان عقيدتها صافية وان قاعدتها في الحياة هي احتضان الدولة والايمان بمسلّمات هذه الدولة وانها حامية لها، وانه يفترض في هذا الوقت على الأصوات التي تبكيها أو تتحسر على ما أصابها أن تحوْل موقفها الإعلامي الى فعل نصرة وانتصار على المستويات المختلفة سياسيا وخدماتيا وانمائيا.
وتضيف مشيرة الى ان طرابلس شكّلت أخيرا حصنا حصينا للجيش مجددة ما كانت أعربت عن التمسّك به مرار في خلال أكثر من مناسبة وحيث تحوّل موقفها لا المحايد بل الحاضن للجيش الى سور أعطى المزيد من المناعة والفعالية للجيش في مهمته الأخيرة والتي كانت دقيقة وخطرة الى أبعد الحدود سواء في الأسواق أو حتى داخل التبانة.
واليوم تؤكد الأوساط الطرابلسية ان الحاجة هي ومن قبل الفريق الحاكم وبخاصة الفريق الذي يسعى دائما الى اجتراح معادلات المناصفة أو التوازن مع طرابلس واقتسام مضمون بعض القرارات الحكومية المالية معها، الحاجة هي لقرارات متقدمة تطلق عجلة لا التنمية بل التخصصية، فالمدينة تحتاج الى هوية جديدة تضعها على خارطة لبنان والمنطقة بما يؤهّلها لتستقطب الأعمال والاستثمارات فالتنمية، إذا ان التنمية المفبركة بقرارات وملايين محددة لا يمكن أن تسهم في دفع طرابلس قيد أنملة الى الأمام، وخاصة ان بعض الاشكاليات المحلية تبقى على حالها، وتبقي معها الكثير من المآسي والحالات المؤسفة وهي تتزايد وتتفاقم.
وهنا لا يسقط القائلون بهذه المعلومات من حسابهم ان بعضا من الاتهامات تطاول فريقا معينا لجهة اصراره على عدم احراز أي تقدّم في طرابلس، وتستذكر ان المعرض الدولي دفن في طرابلس حيا بعد رفض جهات غير طرابلسية تحويله الى معرض حصري وحيث مثلا بنيت تخشيبات سميت بعد حين على انها معارض دولية أو مؤسسات حضانة لهذه المعارض، ولفتت الى ان الكلام شيء والفعل شيء آخر إذا ان الحاجة الملحة اليوم هي لتقديم ما يوقف النزف في طرابلس ويقفل باب رغبة البعض باستخدامها ساحة معارك بين وقت وآخر فيصيب عصفورين بحجر، فهو يعطل المدينة من جهة ويستخدمها من جهة أخرى.
وفي المقابل، وليس بعيدا عن التوقعات والتحليلات الصادرة عن المطلعين عن كثب على مجريات الأمور على الساحتين اللبنانية والطرابلسية، رصدت «اللواء» نقمة شعبية عارمة في عمق المدينة على الوضع العام، وسمعت أصوات واضحة تشير باصبع الاتهام الى أهل السياسة والى احتمال تورطهم في اشعال الأوضاع بين وقت وآخر خدمة لـ «روزنامات» سياسية، إذ ان الكلام الشعبي ذهب بعيدا في القول وهذا ما سجل عبر مواقع التواصل ولم يبقى مجرد همس شعبي، فالأصوات وضعت كل خرق امني في خانة سياسية معينة وآخر التحليلات الشعبية ان الخرق الاخير يصب في خانة التمديد للمجلس النيابي، وبغض النظر عن توتر مثل هذا التحليل ومجافاته للحقيقة إلا ان انه صدر عن «قلوب مليانة»، وعن أناس طيبين تخونهم الأيام يوما بعد يوم ولا يتمكنون من اختراق حواجز القلق النفسي.
ولا تقف الأمور عند هذا الحد فثمة نقمة قاسية على أهل السياسة في طرابلس، كجزء من حالة النقمة الشعبية على الطبقة السياسية بشكل عام، إذ يعتبر الطرابلسيون في المناطق الشعبية ان الاهمال المتعمّد الذي يصيب مناطقهم هو الذي أودى بالأمور الى هذا الحد من التدهور، وان الحرمان هو الذي يفتح الباب عريضا أمام رغبة بعض الشبان في حمل السلاح، ويلفت هؤلاء الى ان القدرة الشرائية لدى أهل المدينة (مناطق الحرمان) هي ضعيفة جدا وان بعض الأهالي لا يقدر على شراء ربطة الخبز، ويرفض القائلون بمثل هذه المعلومات أي حل موضعي كالذي يعتمد بين وقت وآخر ان لجهة طلاء المباني أو اغراق الأسواق بـ «كراتين» المساعدات االغذائية او حتى بصرف المال المؤقت والذي ينضب بسرعة نتيجة العجز الكبير الحاصل في المنطقة.
ويبدي أصحاب هذا الكلام دراية لافتة بطبيعة الحلول المفترضة إذ انهم يشيرون الى ضرورة توفير فرص عمل لا مجرد وظائف يتحكم بها السياسيون هنا أو هناك، وتسمع من الأهالي في مناطق الحرمان كلاما عن ضرورة انشاء مصانع معينة ومعامل صغيرة، ليظهر هذا النوع من الطرابلسيين وعلى الرغم من الوضع السيئ الذي يعيشونه ليظهروا وعيا متقدما إذ ان مقترحاتهم هيّنة من جهة ومفيدة من جهة اخرى، وسنوردها في مقالات أخرى.
في السياسة
وليس بعيدا من منطقي الحرمان والتفاؤل المحليين، لا يبدو الافراط في التفاؤل مريحا ولا مفيدا حتى، إذ ان الوقائع تشير صراحة الى الأمور التالية:
أولا: تبقى الأزمة الحالية في سوريا على حالها، وبالتالي فان القول باحتمال حصول هدوء متين أو طويل العمر في مدينة طرابلس أمر مبالغ به بعض الشيء، وفي الواقع فان من قال يوما وفي معرض حديثه عن العلاقات اللبنانية – السورية ان الاتصال بين الجانبين قائم على وحدة تاريخية وجغرافية محق فعلا، ولذلك فان استمرار البركان السوري يعني حكما تاثر لبنان أمنيا اما بشيء من سيل بركاني خفيف أو حتى مشتعل وإما بغبار ناري أو رماد ساخن والتشبيه هنا بركاني لا سياسيا واقعيا.
ثانيا: لقد أسهمت الأزمة السورية في ولادة نوع جديد من التطرف الإسلامي وهو لا يسقط من حساباته لبنان وتحديدا مناطق الشمال اللبناني، ولذلك فان التوقع بعدم لجوء هؤلاء الى توتير الأوضاع في الشمال وانطلاقا من طرابلس هو توقع ضعيف.
ثالثا: بدا واضحا ان ملف العلاقات العربية – الإيرانية لم ينضج بعد كفاية، وبالتالي فان احتمال تمرير الرسائل انطلاقا أيضا من طرابلس يبقى واردا.
رابعا: لا تبدو الطبقة السياسية جادّة في معالجة مشاكل طرابلس، وهذا الأمر يبقي جرح المدينة نازفا ويفتح الباب أمام الطامحين لاستخدام الفتية في المعارك بعد تسليحهم وهنا يبدو الحل بديهيا من خلال اقفال سوق البطالة أو الحد منه.
خامسا: استمرار الموجة المذهبية المخيفة والتي يبني عليها البعض مصيرهم في الحياة السياسية وفي الواقع فانه لاستثمار مثل هذه الآفة المزمنة مردود سيئ على الاوضاع لا في طرابلس وحدها بل على كل المناطق اللبنانية المعنية.
إلا انه يمكن للبنانيين جميعا وبخاصة قوى الثامن من آذار أن تدفع باتجاه اطمئنان طرابلسي من خلال أداء سياسي مسؤول يحد من توتر أهل المدينة سواء حملة السلاح أو حملة القلق والتوتر النفسيين، كي يكون لجهد الجيش نتائج فاعلة وكي يكون لشهداء الجيش قيمة عند الجميع فلا يهدر دمهم رخيصا في زمن تعزُّ فيه شهادة نخبة ضباط وعناصر الجيش.