IMLebanon

محتال سابق يصنع ثروة «نظيفة» من ماض ملوث

FRankApengil
إيما جيكوبس

يقف فرانك أباجنيل بهدوء وثبات أمام مجموعة صغيرة من المستمعين المختصين في شؤون الأمن ومكافحة الاحتيال. إنه يلقي محاضرة في وسط لندن عن حياته.
يتنحنح ثم يبدأ حديثه.

“نشأتُ مباشرة شمال مدينة نيويورك في مقاطعة وستشستر في نيويورك، في بلدة صغيرة تسمى برونكسفيل. كنتُ الطفل الأوسط من بين أربعة أطفال”. حتى تلك اللحظة كل شيء كان عادياً. ثم حدث انفجار ــ تم إلقاء قنبلة يدوية على مدفأة داخل بيت. فصل من مدرسته وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم أخذ إلى محكمة وأخبره القاضي بأن أبويه في سبيلهما إلى الطلاق، وأن عليه أن يختار أيهما يريد العيش معه. كانت تلك أول مرة يسمع فيها أباجنيل عن الخلافات بين أبويه. ثم فعل ما يمكن أن يفعله أي مراهق عادي في هذه الحالة: البكاء ثم الهروب. لكن ما حدث بعد ذلك كان شيئاً غير عادي. مضت سبع سنين قبل أن يرى أمه مرة ثانية، لكنه لم ير والده أبداً.

فراره جعله يسير في طريق الجريمة، مثل تزوير الشيكات، وادعاء دور قبطان، أو محام، أو أستاذ جامعة، أو طبيب أطفال. ظهر سحر قصته المليئة بالفرص والشجاعة في الفيلم الذي أخرجه ستيفين سبيلبيرغ “أمسكني إذا استطعت”، الذي لعب فيه ليوناردو دي كابريو دور المزيف المحترف.

استمرت حياته الإجرامية خمس سنوات قبل أن يلقى به في السجن، لينتقل بعدها إلى حياة أكثر شرعية بالعمل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” ويكسب ثروة من الاستشارات حول الاحتيال والاختلاس وأمن الوثائق وكذلك من بيع تكنولوجيا مكافحة الاحتيال إلى المؤسسات المالية وشركات وكالات إنفاذ القانون. كانت رحلته الأخيرة إلى لندن، مثلا، متعلقة بمنتجات مكافحة سرقة الهوية لشركة نيكسيس ناكسيس ريسك سوليوشنز. وهي قسم من شركة ريد إلسفيير.

التقيناه بعد أن أنهى كلمته عن مهنته المميزة. ولدت أعماله حول الاستشارات الأمنية من رحم الضرورة، إذ كان يبقى في وظيفته إلى أن يكتشف صاحب العمل ماضيه. وكان من الواضح أن عليه أن يطبق مقولة “إذا كانت لديك حبة ليمون فاصنع منها ليمونادة” واستغلال ماضيه الإجرامي لمصلحته.

ولذلك كان يخاطب المصارف ويقترح عليها تقديم نصائحه حول الأمن فيها. ويقول مضت سنوات قبل أن يتمكن من كسب الثقة ويبني قاعدة للعملاء. وأكبر رصيد له هو “أنا الرجل الذي فعل ذلك. ولو لم أكن أملك الخلفية التي ملكتها، لكنت مجرد شخص آخر يتحدث عن الاحتيال”. واستطاع استحداث تكنولوجيا لحماية المعلومات الشخصية وتأمين الوثائق. ولأنه يفتقر للمهارات الفنية ــ فهو لا يستطيع برمجة الكمبيوتر، مثلاً ــ فقد لجأ للعمل مع مبرمجين وعلماء لتطوير برمجيات للوقاية من الاحتيال وحماية الهويات.

ويقول: “أنا شخص حاد النظر. يمكنني رؤية أشياء لا يستطيع آخرون رؤيتها”. ويلاحظ أن التكنولوجيا سهلت من ارتكاب عمليات الاحتيال أكثر مما كانت عليه الحال في أيامه. ويقول بخصوص الهجمات الإلكترونية التي تعرض لها أخيرا بنك جيه بي مورجان، إنه يشك في أن الهاكرز لم يتمكنوا، كما يقول البنك، من أخذ معلومات إضافية (مثل أرقام بطاقات الائتمان وأرقام التأمينات الاجتماعية والمعلومات الشخصية).
أبا جنيل الذي يدفع عملاؤه مبالغ جيدة، رجل أنيق الملبس ــ يمكنك أن ترى منديله الأبيض بارزا من الجيب الأمامي لبدلته ذات الصديري. وقد عمد في الـ 25 عاماً الماضية على تفصيل بدلاته في بيت الموضة الإيطالي بريوني.

كانت الملابس دائماً مهمة بالنسبة له. وقد تضمنت رعونته وهو مراهق ارتداء زي الأطباء والقباطنة. وسبق له أن نقل شعار شركة بان أمريكان عن أنموذج طائرة نفاثة اشتراه بدولارين، بعد غمره في سائل، وثبته على بطاقة هوية شخصية استخدمها في الركوب مجانا في قمرة قيادة طائرة شركة منافسة. ولم يسبق له أبداً أن حاول قيادة طائرة ــ وهو يريد الإشارة إلى أنه لم يكن يملك الثقة الكافية، أو في الحقيقة لم يكن غبياً ليفعل ذلك، أو يحل محل شخص غائب في مستشفى. “وطوال إقامتي (في المستشفى) لم يشك أحد أنني طبيب فعلا”.

وعندما يعود بذاكرته إلى الوراء يتذكر نفسه وهو ولد هارب يكتب شيكات مزورة. كان انتهازياً ولم يكن استراتيجياً. وقد لاحظ أنه لم تكن لتنجح معه أي خطة لو اختلقها مسبقاً. ولم يكن يخطر على باله أبداً أسئلة مثل، ماذا لو؟ ويقول إن أكبر ما امتلكه هو كونه حدثاً، ولذلك “لم أكن خائفاً من الإمساك بي. ولم أكن أفكر في عواقب ما أفعل، مثلما يفكر الكبار”. ويضيف أن امتلاكه قليلا من الشعر الأشيب ساعده على إظهار نفسه على أنه أكبر سناً مما هو في الواقع.

ومع ذلك يعتبر أبا جنيل البائع المثالي. وفي الحقيقة انغمس في ارتكاب الجرائم الصغيرة حتى قبل أن ينفصل والداه، مثل استخدامه بطاقة ائتمان والده، كما أرسل إلى مدرسة للأطفال الجانحين. ويقول: “أستطيع القول فقط إني كنت وأنا في سن صغيرة شخصاً ملهما جدا، وأردت دائماً تجربة أي ثغرات يمكن أن أنفذ منها”.

ومع مرور السنين، بدأ ضميره يؤنبه. فقد بدأ يتيقن من احتمال أن يكون تم فصل موظف المصرف من عمله بسبب صرفه شيكاً مزوراً. وبدأ الشعور بالوحدة يزعجه أكثر من الخوف مما يفعله: “لم أكن أثق أبداً بأي كان. وكنت أشعر دائماً بأنني شخص مهم”. العيش بشخصية مزدوجة أمر مستنزف للأعصاب. وهو يزعم أن الأمر الأساسي في الحفاظ على هوية سرية هو الإبقاء على بعض العناصر ثابتة وشخصية ــ مثلا، كان يستخدم الاسم الوسط جزءا أصيلا من اسمه.

ولم يكن هناك مفر من أن تفعل جرائمه ما كان يجب أن تفعله معه منذ البداية. كان ذلك مسألة وقت. وعندما حانت اللحظة المناسبة ــ في بيربينيان في فرنسا ــ غمره شعور بالارتياح وقال لنفسه “لقد انتهيتُ من الركض وراء الأشياء (…) لقد هُزمت وانتهى الأمر”. وفي النهاية اتهم أبا جنيل بصرف شيكات مزورة مجموعها 2.5 مليون دولار. لكنه بقي هارباً من وجه العدالة خمس سنوات أنفق خلالها نحو نصف مليون دولار. ويقول: “كنت أجني الكثير من المال، لكني كنت مثل الطفل، لم أعرف ماذا أفعل به”. لم يكن السجن سيئاً للدرجة التي كان يتوقعها (جرى تسليمه للسويد قبل ترحيله إلى الولايات المتحدة). ووصف السجن الفرنسي بأنه كان هو الأسوأ، أما المبيت في سجن سويدي فهو مثل المبيت ليلة في فندق الهوليداي إن. أما السجن الأمريكي فهو شيء بين هذا وذاك. وعن حياته في السجن يقول إنه كان يلعب لعبة غولف مصغرة، وكان يشاهد التلفزيون أيام العطلات الأسبوعية: “لم يكن عليك دفع ضرائب، أو دفع فواتير، وهناك من يعتني بك، وإذا مرضت تذهب إلى الطبيب”.

وبعد أن أمضى في السجن 12 سنة هي عقوبته، أفرج عنه قبل نهاية المدة شريطة أن يساعد “إف بي آي” في الكشف عن مزوري الشيكات. وقال: “إن أكثر ما رأوه فيَّ هو قدرتي على أن أصبح أي شخص يحتاجون مني أن أكونه. وكان الغرض الرئيس هو أن أقوم بعمل سري”. قابل زوجته التي كانت تدرس للحصول على شهادة ماجستير في أثناء عمله وهو يتظاهر بأنه مرشد اجتماعي في بيت أيتام، ومشتبه به في اختلاس صندوق حكومي. استمرت اللقاءات بينهما ستة أشهر، وكان كل ما عرفته عنه أنه كان شخصية مزورة. وفي النهاية اعترف بالحقيقة، حين اخترق بروتوكولات “إف بي آي” وقامر على قبولها بهويته الحقيقية. وهو ما فعلته. وهو يدين لها بأنها الشخص الذي غير من حياته. قام هذا الشخص الذي يبلغ عمره الآن 66 عاماً بدفع كل ما عليه طوعاً. وقال: “لدى من زوجتي ثلاثة صبيان، لأني عرفت أنني أستطيع أن أنفق عليهم” واحد منهم الآن يعمل مع “إف بي آي”.

ورغم بدايته الخاصة، فهو يعتقد أن المجتمع الحديث يفتقر إلى أساس أخلاقي. ويقول: “إنرون، وويرلد كوم، وتايكو، ومادوف ــ كل هؤلاء جاءوا من أفضل الخلفيات، ومن عائلات ثرية، وتلقوا تعليماً جيداً بصورة ممتازة. لكنهم لم يتلقوا دروساً في الأخلاق”. وبالتالي حين حصلوا على وظائف يستطيعون من خلالها التلاعب، فعلوا.

ومن رأيه أن التعليم هو الأساس ــ سواء من حيث موضوع الأخلاق أو الحماية الشخصية: “فحين تُبين للناس أن هناك مخاطر، فإنهم سرعان ما ينصبون الحواجز”. لكن هذا الماضي الإجرامي سلاح ذو حدين. فهو يعترف بأنه يمر بنوبات من الإحباط. “إنه أمر مذهل بالنسبة لي، ونوعاً ما يفطر قلبي، كون الناس يريدون فقط أن أكتب عن الأشياء التي فعلتها قبل 50 عاماً حين كنتُ مراهقاً”.