أظهر مسح أولى لرويترز أن مخزونات النفط الخام التجارية فى الولايات المتحدة من المرجح أنها زادت بمقدار 3.5 مليون برميل الأسبوع الماضي. الأمر الذى عزز المخاوف من وفرة المعروض علاوة على القلق بشأن ضعف الطلب العالمى مما يلقى بظلاله على السوق. وهكذا واصلت أسعار التعاقدات الآجلة لخام برنت فى التراجع لأقل من 86 دولارا للبرميل لاسيما بعد أن خفض بنك الاستثمار الأمريكى جولدمان ساكس توقعاته لأسعار عقود برنت وللخام الأمريكى 15 دولارا خلال الربع الأول من العام المقبل من 100 دولار إلى 85 دولارا بسبب توقع أن تفوق زيادة الإنتاج فى الدول غير الأعضاء فى أوبك الواقعة خارج أمريكا الشمالية الطلب.
انخفاض أسعار النفط قد يكون له عواقب وخيمة على البعض مثلما سيحقق مكاسب للبعض الآخر، فمن هم الرابحون والخاسرون من انخفاض أسعار الخام فى الفترة المقبلة بفرض بقاء الأسعار متدنية؟
من المؤكد أن التكهن بأسعار النفط لعبة فيها الكثير من المخاطرة. وخلال الأشهر الثلاثة الماضية حدثت تطورات غير متوقعة مع زيادة إنتاج ليبيا بنسبة 40٪ بنهاية شهر سبتمبر عما كانت عليه قبل شهر واحد . ثم كان قرار المملكة العربية السعودية بزيادة الإنتاج للحفاظ على حصتها السوقية والإضرار بالنفط الصخرى الأمريكي. والمفاجأة الكبيرة كانت التطورات الجديدة فى المنطقة القطبية الشمالية .
والآن تشهد أسعار النفط انخفاضا مرة أخرى. فمنذ يونيو، انخفض خام برنت من نحو 115 دولارا للبرميل إلى 85 دولارا أو اقل من ذلك. وإذا استقرت الأسعار عند مستواها الحالى فسوف تنخفض الفاتورة السنوية لمستهلكى النفط بحوالى تريليون دولار الذى من شأنه أن يعالج ركود الاقتصاد العالمى، لكن سيكون له أيضا عواقب سياسية كبيرة مع ما يمثله من فرص لبعض الحكومات وتهديدا للبعض الآخر.
ومثلما كانت العوامل الجيوسياسية سببا فى الاتجاه الصعودى يمكن أن يحدث العكس، والمملكة العربية السعودية قد تقرر خفض إنتاجها لرفع الأسعار مرة أخرى، ومع استمرار الحرب فى العراق والاضطرابات فى ليبيا واحتمال وقوع نيجيريا فريسة التمرد، كل هذا يجعل الإمدادات عرضة لقوى الفوضى. ولكن عوامل بقاء الأسعار منخفضة أقوى. فمن غير المتوقع تعافى النمو العالمى قريبا بما يزيد الطلب على النفط، ومصادر الطاقة النظيفة ومبادرات خفض استهلاك الوقود فى الدول الغنية لن تتوقف فجأة.
من ناحية أخرى انخفاض أسعار الخام يخفض فاتورة الواردات وكذلك الدعم فى الدول المستهلكة. وعلى سبيل المثال، فاتورة دعم الطاقة تمثل 20٪ من الإنفاق العام فى اندونيسيا و14٪ فى الهند .
وقد أشار تقرير لمجلة الايكونومست حول هذا الموضوع إلى قضية دعم الطاقة وذكر انه على صعيد الشرق الأوسط والدول المستوردة للخام فإن دعم الطاقة كلف مصر 6.5٪ من ناتجها المحلى الإجمالى فى عام 2013، والأردن 4.5٪، والمغرب وتونس 3-4٪ . وقال إن انخفاضا بنسبة 20٪ فى أسعار الخام سوف يدعم ميزانيات تلك الدول، وفى حالة مصر والأردن سيكون بزيادة إجمالى الناتج المحلى بـ 1٪ وذلك بحسب تقديرات صندوق النقد الدولى.
وأضاف التقرير أن هناك مخاوف من أن تكون المكاسب غير كافية لإقناع النظم السياسية فى تلك الدول بخفض دعم الطاقة الذى يفيد بشكل أساسى الطبقة المتوسطة المؤثرة سياسيا فى البلاد . بالنسبة للحكومات التى تستخدم مكاسب ارتفاع أسعار النفط فى انتهاج سياسة خارجية عدوانية هى أكبر الخاسرين هذه الأيام من انخفاض الأسعار وفى مقدمتها فنزويلا وإيران وروسيا.
يذكر أن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991 كانت عديدة ولكن أهمها كان انخفاض أسعار النفط – السلعة التصديرية الرئيسية له – بواقع الثلثين فى الفترة ما بين عامى1980 و1986 وبالمثل كان حكم فلاديمير بوتين الذى استمر 14 عاما مدعوما بزيادة أسعار النفط ثلاثة أضعاف . ويمكن للكرملين التعامل مع الأسعار المنخفضة الحالية لمدة تتراوح بين 18 شهرا وعامين، ولكن احتياطياتها ستنفد فى نهاية الأمر، لاسيما مع الإنفاق السخى لبوتين على التحديث العسكرى الذى يلتهم20٪ من الإنفاق العام . هذا بالإضافة إلى العقوبات الغربية التى تضيق الخناق على الاقتصاد مع صعوبة الاقتراض من الخارج. ومع تراجع الأوضاع الاقتصادية وانخفاض الروبل قد يزيد سخط الفقراء الروس.
أما فنزويلا، موطن «الثورة البوليفارية»، التى حاول الراحل هوجو شافيز تصديرها إلى جميع أنحاء المنطقة، فتعتمد ميزانيتها على أن يكون سعر الخام عند 120 دولارا للبرميل ومن ثم ستواجه صعوبات متزايدة فى حالة بقاء الأسعار منخفضة.
وإيران أيضا موقفها صعب، حيث تحتاج الى سعر 140 دولارا للبرميل لتحقيق التوازن فى الميزانية السخية. فالعقوبات التى تهدف لكبح برنامجها النووى جعلتها عرضة بوجه خاص لتقلبات أسعار الخام .
يذكر انه قبل أسابيع قليلة قد وضع صندوق النقد الدولى سيناريو للاقتصاد العالمى إذا ما تسببت الحرب فى العراق فى حدوث أزمة نفط وارتفاع الأسعار بنسبة 20٪ على أساس سنوى. وتوصل الصندوق إلى أن الناتج المحلى الإجمالى العالمى قد ينخفض فى هذه الحالة بنسبة 0.5-1.5 ٪، والأسهم قد تهبط 3-7 ٪، والتضخم ربما يرتفع بما لا يقل عن نصف نقطة مئوية.
ولكن، على الرغم من استمرار تقدم تنظيم «داعش»، وبقاء روسيا فى أوكرانيا وعدم استقرار الاوضاع بعد فى سوريا ونيجيريا وليبيا وجميعها دول منتجة للنفط، بالرغم من كل هذا، تراجعت أسعار النفط بنسبة 25٪ من 115 دولارا للبرميل فى منتصف شهر يوليو إلى 85 دولارا مؤخرا.
ومن ثم فان الفائز الأول من انخفاض أسعار النفط هو الاقتصاد العالمى نفسه. فبحسب خبراء صندوق النقد الدولى تغير أسعار النفط بنسبة 10٪ يؤدى إلى تغير فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى بنسبة 0.2٪ . وعادة ما يعزز هبوط الأسعار الناتج المحلى الإجمالى عن طريق تحويل الموارد من المنتجين إلى المستهلكين، الذين يحرصون على إنفاق مكاسبهم . وهكذا فإن انخفاض الأسعار بنسبة 25٪ يعنى زيادة 0.5٪ فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
والسبب فى هبوط الأسعار هذه الأيام هو التحولات فى كل من العرض والطلب. تباطؤ الاقتصاد العالمى أدى إلى انخفاض الطلب، ومن ناحية أخرى إنتاج النفط الصخرى الأمريكى عزز المعروض بما يتراوح بين مليون و2 مليون برميل نفط يوميا منذ أوائل عام 2013 .
الصين هى ثانى أكبر مستورد فى العالم للنفط. وبناء على إحصاءات عام 2013، انخفاض قدره دولار واحد فقط فى سعر الخام يوفر 2.1 مليار دولار سنويا. ومن ثم فإن الانخفاض الأخير يخفض فاتورة الواردات بنحو 60 مليار دولار أو 3٪ .
أما على صعيد الولايات المتحدة فإن تأثير انخفاض أسعار النفط تأثير مزدوج، كونها أكبر مستهلك، مستورد ومنتج للنفط فى العالم. ومن ثم فإن انخفاض الأسعار قد يفيد الاقتصاد الأمريكى ولكن ليس بقدر ما كان عليه من قبل. ويعتقد محللون فى جولدمان ساكس أن هبوط أسعار النفط وخفض أسعار الفائدة سوف يزيد النمو بنسبة 0.1٪ فى عام 2015 . ولكن ذلك سيقابله ارتفاع الدولار، وتباطؤ النمو العالمى وضعف أسواق الأسهم المالية .
وفيما يتعلق بالنفط الصخرى، فمنذ بداية عام 2010 زادت الولايات المتحدة إنتاجها منه بما يزيد على 3 ملايين برميل يوميا . ولكن لان تكلفة استخراج النفط الصخرى تزيد كثيرا على النفط التقليدى . فان انخفاض الأسعار يكبد منتجى النفط الصخرى خسائر. ووفقا لتقديرات خبراء بنك باركليز هبوط أسعار الخام بـ20 دولارا للبرميل يخفض أرباح المنتجين بنسبة 20٪ . والجدوى الاقتصادية لاستخراج أربعة أخماس احتياطيات الصخر الزيتى – باستخدام التكنولوجيا الحالية – تستدعى عدم انخفاض خام برنت عن حوالى 85 دولارا.
أمريكا هى مستورد صاف ايضا، ولذلك انخفاض الأسعار يعنى مكسبا للأمريكيين ولكن تأثيرها أقل مما كانت عليه من قبل، مع تراجع أهمية الواردات وتقلص حصة النفط فى الاقتصاد.
وتتوقع إدارة معلومات الطاقة، انخفاض صافى الواردات النفطية إلى 20٪ من إجمالى الاستهلاك الأمريكى خلال العام المقبل وهو أدنى مستوى منذ عام 1968 .
وبالنسبة لأوروبا التى يهيمن عليها مخاوف الانكماش فإن النفط يمثل 75٪ من فاتورة واردات الطاقة المقدرة بنحو 500 مليار دولار فى عام 2013 . ومن ثم فإن بقاء الأسعار عند مستوى 85 دولارا للبرميل معناه انخفاض تلك الفاتورة الى أقل من 400 مليار دولار سنويا .
ومن أبرز الفائزين أيضا، مجموعة الدول التى تعتمد على الزراعة التى تعتبر قطاعا كثيف الطاقة أكثر من الصناعة. وحيث إن معظم المزارعين فى العالم من الفقراء فإن انخفاض أسعار الخام سيكون فى صالح الدول الفقيرة وذلك مثل الهند التى يسكنها ثلث فقراء العالم الذين يعيشون على اقل من 1.25 دولار فى اليوم.
وعلى صعيد الشرق الأوسط وفيما يتعلق بالمملكة السعودية أكبر مصدر للنفط فى العالم، بإمكانها الصمود أمام الأسعار المتدنية لعشرات السنين . فعند 115 دولارا للبرميل كانت إيراداتها النفطية 360 مليار دولار سنويا، وعند 85 دولارا للبرميل تنخفض إلى 270 مليارا. وعلى عكس بقية مصدرى النفط، وبالرغم من ارتفاع حجم إنفاقها العام كان لدى المملكة فى شهر أغسطس الماضى 737 مليار دولار، بخلاف إنفاق ثلاث سنوات بالمستوى الحالى . وهكذا تستطيع السعودية تحمل مزيد من الانخفاض فى أسعار الخام.