وليد خدوري
نجحت محادثات ماراثونية، في رعاية الاتحاد الأوروبي ومشاركة صندوق النقد الدولي، في تحقيق اتفاق بين شركة «غازبروم» الروسية العملاقة وشركة «نفط غاز» الأوكرانية في 30 تشرين الأول (أكتوبر)، للوصول إلى هدنة تسمح بضخ الغاز الروسي خلال فصل الشتاء (من الأول من الشهر الجاري حتى نهاية آذار (مارس) 2015)، عبر أوكرانيا لتأمين الحصول على الوقود اللازم لتدفئة الدول الأوروبية. واقتضى الاتفاق ممارسة ضغوط أوروبية شديدة على أوكرانيا للقبول بالدفع وإن بأسعار مخفضة، وتنازلات روسية مهمة خسرت بموجبها أكثر من بليون دولار من دون الحصول على اتفاق سعري نهائي.
نظراً إلى محدودية الفترة الزمنية للهدنة، ستعود موسكو وكييف إلى مفاوضات جديدة عند انتهاء مدة الاتفاق، تكتنفها الخلافات والنزاعات حول شبه جزيرة القرم ومحاولة انفصال شرق أوكرانيا للانضمام إلى روسيا. كما ستشمل المفاوضات ضرورة موافقة أوكرانيا على العودة إلى سعر الغاز القديم بدلاً من السعر الجديد المخفض الذي تم الاتفاق عليه في هذه الهدنة. وأكد المسؤولون الروس أن لا عودة عن الأسعار القديمة في الاتفاقات المستقبلية. ما يعني أن المفاوضات لاتفاق جديد ستعود في ظل صراع غربي – روسي جيوسياسي، إضافة إلى العودة للخلافات الاقتصادية بين روسيا وأوكرانيا، أي أن الطرفين سيدخلان مرة أخرى في مفاوضات مضنية غير معروفة النتائج التي من الممكن أن تهدد إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
تدعو خطة الغاز الشتوية شركة «غازبروم» إلى إمداد أوكرانيا بالغاز في مقابل استلام 1.45 بليون دولار سلفة عن جزء من الغاز الذي تم تسليمه سابقاً. واتفق على أن سعر الغاز خلال فترة الهدنة سيكون حوالى 365 دولاراً لكل ألف متر مكعب، في مقابل السعر القديم المتفق عليه في حينه وهو 378 دولاراً. هذا يعني من جهة، أن موسكو سمحت بخفض سعر الغاز حوالى 100 دولار للكمية ذاتها. ولكن، لن تتحمل شركة «غازبروم» المساهمة هذه الخسارة لوحدها، إذ ستخفض الحكومة الروسية ضريبة تصدير الغاز إلى أوكرانيا، ما يعني أن الحكومة الروسية ستتحمل هذا الفرق.
من دون هذا الاتفاق، كان يتوجب على أوكرانيا السحب من مخزونها الغازي الضئيل، ما كان سيؤثر سلباً في كل من أوروبا وأوكرانيا حيث تبلغ درجات الحرارة حالياً حوالى 5 درجات مئوية. هذا، وتزود سلوفاكيا وهنغاريا وبولندا أوكرانيا بالغاز الطبيعي، إلا أن الإمدادات ضئيلة وغير كافية لحاجتها، إذ يبلغ عدد سكانها حوالى 45 مليوناً. ما يعني ضرورة اللجوء إلى الغاز الروسي، لحاجة أوروبا له، وكذلك أوكرانيا.
تم التوصل إلى الاتفاق عبر تنازلات قدمت من جانب الطرفين، في رعاية الاتحاد الأوروبي ومشاركة صندوق النقد. وتعهدت أوكرانيا دفع ما عليها من التزامات مالية من خلال المساعدات والقروض الدولية التي ستتوافر لها من الاتحاد والصندوق. وحاولت موسكو أثناء المفاوضات أن تحصل على الدفعات المالية مباشرة من الاتحاد الأوروبي، إلا أ الأوربيين رفضوا هذا الاقتراح. وقال المسؤول عن الطاقة في الاتحاد، غونثر غوتنغر، بعد توقيع الاتفاق: «لم يعد من سبب للأوروبيين للمعاناة من البرد خلال هذا الشتاء». كما أعلن الاتحاد الأوروبي في بيان أن «مساعدات غير مسبوقة ستقدم في الأوقات المناسبة، كما أن صندوق النقد أعطى الضمانات اللازمة لأوكرانيا في استعمال كل الوسائل المالية المتاحة له لدفع قيمة الغاز».
واعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفقاً لموقع «بوليت. رو» بأنه مارس ضغوطاً على شركة «غازبروم» كي تستطيع أوكرانيا تسديد ديونها عن الغاز الذي استوردته سابقاً، أي القبول بالسعر المخفض الحالي، بدلاً من السعر القديم الأعلى. كما أكد الموقع الرسمي للكرملين «كرملين. رو» قول الرئيس بوتين في 24 تشرين الأول الماضي: «اضطررت للضغط على غازبروم، فأرجو المعذرة من المساهمين بمن فيهم الأجانب، راجياً منها عدم الإصرار على هذه الأموال (ويعني الدين الإجمالي لغازبروم الذي يبلغ 5.3 بليون دولار مستحقة على الجانب الأوكراني، على أساس 485 دولاراً لكل ألف متر مكعب)، والقول للأوكرانيين ليدفعوا على الأقل 3.5 بليون دولار، وبعد ذلك سنتناقش حول الفارق».
واضح أن الاتفاق يشكل حلاً للطرفين. لقد اضطر الكرملين للقبول بأسعار منخفضة للغاز في مقابل بديل خاسر، هوعدم استلام أي دفعات مالية. والضغوط هذه الأيام كثيرة ومتزايدة على موسكو. فمن ناحية، هناك تصاعد المقاطعة الغربية، إضافة إلى انحسار أسعار النفط. لكن الأهم قد يكون، بخاصة على المدى البعيد، توقف إمدادات الغاز لأوروبا، السوق الأكبر للغاز الروسي. واستطاعت موسكو تأمين الغاز (وقود التدفئة) لأوروبا في الشتاء القارس، موجهة رسالة إلى دول الاتحاد الأوروبي مفادها أنها مزود للغاز يتمتع بصدقية ومسؤولية، على رغم الخسارة التي لحقت بها، والخلافات السياسية المتصاعدة حول أوكرانيا. واضطرت كييف إلى الاعتماد على المساعدات والقروض الدولية لدفع جزء من ديونها لروسيا، وحصلت نتيجة لذلك على الغاز لفصل الشتاء المقبل وبأسعار مخفضة، ناهيك عن الأسعار المخفضة للإمدادت السابقة. كما ضمنت أوكرانيا استمرارها في لعب دور استراتيجي في عبور الغاز إلى أوروبا وعدم خسارة هذا الموقع الذي يدر عليها عائدات ضخمة.
تكمن أهمية هذا العامل في العدد المتزايد من مقترحات خطوط أنابيب الغاز الروسية لأوروبا التي تتفادى عبور أوكرانيا. لكن تعرف كل من روسيا وأوكرانيا، ومعهما الاتحاد الأوروبي، أن الطريق قصير وغير معبد في النهاية، إذ يتوجب الولوج في مفاوضات جديدة وبأطر مختلفة منذ الآن، بخاصة الأسعار. كما أن الجميع في حلبة صراع مسلح غير معروف النتائج، كما يتوقع أن يتكرر الخلاف الروسي – الأوكراني بعد فصل الشتاء.