حيدر الحسيني
«عشرات سنوات سِمان أكلَهُنّ ست عِجاف». لعل هذا أصدق تعبير اليوم عن حال اليونان التي أنهكتها 6 سنوات من الانكماش أفقدتها ثمار عقود من النمو والرفاه والازدهار، وشكّلت، بالنسبة للمسؤولين في البلد (موالين ومعارضين)، كابوساً لا يقل هاجساً عن الهمّ الذي انتاب فرعون مصر حين شاهد الرؤيا الشهيرة في عهد النبي يوسف.
في ذلك العصر، لم يقتصر القحط على مصر وحدها، بل أصاب كافة الأمصار الواقعة في جوارها. كذلك، لم يقتصر التدهور الاقتصادي منذ عام 2008 على اليونان، بطبيعة الحال، بل أتى في سياق من تراجع عام انطلقت شراراته من الشارع المالي الأميركي «وول ستريت» وألهبت غالبية الاقتصادات الأوروبية وغيرها.
قبل الأزمة بسنوات مديدة، استطاعت النقابات والاتحادات العمالية من القطاعين الخاص والعام ، تحقيق مكتسبات كبيرة جداً على مستوى الرواتب والتقديمات وإعانات البطالة والعُطَل وتسهيلات التقاعد، في فترة اتّسمت بكثير من ملامح البذخ والفساد والتوسّع في الإنفاق، مستفيدة من انتعاش قوي على كافة المستويات المالية والمصرفية والسياحية والخدماتية.
وبعداندلاع الأزمة، وجدت اليونان نفسها فريسة لأزمة سيولة عميقة وجبل ضخم من الديون الحكومية وركود اقتصادي حاد، عجزت معه عن سداد المستحقات المتوجبة عليها، واضطُرَت للاستعانة بمصادر خارجية، انطلاقاً من مجموعة اليورو التي هي واحد من أعضائها، فما كان من النافذين فيها، وتحديداً ألمانيا، إلا أن شكلوا «ترويكا» من المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، فرضت في النهاية شروطاً تقشفية وتدابير إصلاحية قاسية غير شعبية، أسقطت حكومات وأعادت تشكيل المشهد السياسي.
لم تجد السلطات مفراً من الاستجابة لهذه الشروط كي تحصل على السيولة اللازمة وتتلافى الوقوع في «فخ» الإفلاس، واستطاعت العودة إلى دائرة النمو اعتباراً من العام الجاري، وفقاً للتقديرات الدولية والأوروبية، لكنها لا تزال تدفع الثمن في شوارع تغص بمتظاهرين يرفضون عمليات الخصخصة وتسريح العمّال والموظفين وتقليص الحوافز والأجور.
فكفكة قيود الانكماش
وفقاً لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، سجل الاقتصاد انكماشاً نسبته -3,9 في المئة العام الماضي، قبل أن تتحسن توقعات إلى 0,6 في المئة لهذه السنة، مقابل 2,9 في المئة سنة 2015، قياساً بـ0,5 في المئة و1,9 في المئة لمجموعة دول «أوروبا المتقدمة» (Advanced Europe)، التي تضم 26 بلداً من القارة الأوروبية.
اقتصاد اليونان حقق متوسط نمو إيجابي بلغ 3,7 في المئة بين عامي 1996 و2005، قبل أن يسجل 5,5 في المئة نمواً عام 2006 و3,5 في المئة عام 2007، ليدخل بعد ذلك مع تفجر الأزمة المالية العالمية في دائرة الانكماش المستمر منذ عام 2008 حتى عام 2013، مسجلاً هامشاً سالباً أقصاه -7,1 في المئة سنة 2011 وأدناه 0,20 في المئة عام 2008.
وبقي التضخم دون الصفر هذه السنة عند توقعات تشير إلى بلوغ مؤشر أسعار المستهلكين -0,8 في المئة، مقابل -0,9 في المئة العام الماضي، وتوقعات تترقب تضخماً إيجابياً عند 0,3 في المئة السنة المقبلة، بالمقارنة مع هامش بين 1,6 في المئة و2 في المئة لـ»أوروبا المتقدمة».
في مؤشر آخر، يبلغ فائض الحساب الجاري المتوقع لهذه السنة 0,7 في المئة، وهو نفس المستوى المسجل العام الماضي، فيما تشير التوقعات إلى انخفاضه إلى 0,1 في المئة العام المقبل، قياساً بهامش بين 1,7 في المئة و2 في المئة لـ«أوروبا المتقدمة».
وقد أسهم الركود الاقتصادي وعدم استحداث فرص عمل كافية وتنفيذ موجات من تسريح العمال، في زيادة نسبة الفقر إلى 23,1 في المئة وجموح معدل البطالة العام المنصرم إلى 27,3 في المئة، لكن من المتوقع أن ينحسر هذا الأخير تدريجاً إلى 25,8 في المئة، ثم إلى 23,8 في المئة العام المقبل، مقابل هامش بين 9,8 في المئة و10,7 في المئة لـ«أوروبا المتقدمة».
المديونية «فخٌ» منصوب
بالرغم من أن اليونان بدأت تستفيد من مواسم سياحية أفضل من السابق، وتشهد وضعاً اجتماعياً وسياسياً أكثر استقراراً، إلى حد ما، إلا أن مسألة المديونية تبقى غاية في الأهمية والخطورة، فهي بمثابة الفخ المنصوب الذي يتطلب تجنّبُه يقظة عالية في التعامل مع مسألة الاقتراض والتحلّل من استسهال الاعتماد على مصادر التمويل الخارجي.
سنة 2006، بلغت الديون المتراكمة على الدولة اليونانية 237 مليار دولار، أو ما نسبته 90,4 في المئة من الناتج المحلي المجمل (GDP)، و0,47 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي، وكانت بذلك ثامنة دول العالم الأكثر اقتراضاً بعد الولايات المتحدة وإسبانيا والمملكة المتحدة وأستراليا وإيطاليا والبرازيل والمكسيك.
أما اليوم، فيتوقع صندوق النقد بلوغ ديون اليونان 175 في المئة من الناتج المحلي المجمل بحلول نهاية العام الجاري، ما يضعه في المركز الثاني عالمياً بعد اليابان، وأسهم في رفعه إلى هذه النسبة اقتراض أثينا بكثافة من الصندوق والاتحاد الأوروبي، بمقتضى خطة الإنقاذ البالغة قيمتها 237 مليار يورو (304 مليارات دولار أميركي). وبحسب «مكتب الإحصاء الأوروبي» (يوروستات)، زادت المديونية في نهاية العام المنصرم إلى 174,9 في المئة من الناتج، لتسجل رقماً قياسياً بلغ 319,13 مليار يورو.
ولا يزال الغموض يكتنف مستقبل العلاقة مع الدائنين، حيث يعتبر صندوق النقد أن اليونان لا تزال عاجزة عن الاستغناء عن المساعدة الخارجية، بالرغم من إصرار أثينا على تفادي حزمة مساعدات ثالثة بعد 5 أعوام من الحزمة الأولى، علماً أن برنامج المساعدات الأوروبي ينتهي أواخر العام الجاري، بينما يمتد برنامج مساعدات صندوق النقد حتى مطلع سنة 2016.
أخيراً، تجد السلطات اليونانية نفسها اليوم أمام تحديات لا تقل خطورة عن السابق، بالرغم من النمو الطفيف المنتظر تحقيقه هذه السنة. حيث أن البطالة والفقر وجموح الاقتراض الحكومي والركود المستحكم بكثير من القطاعات، لا تزال، جميعها، من أبرز القضايا التي تشكل خطراً على هذا النمو الضعيف الذي لم يقطف الاقتصاد الواهن ثماره بعد.
في الواقع، لا تحمل الأمور كثيراً من المؤشرات الإيجابية المتينة في ضوء التململ الشعبي من الإجراءات التقشفية الصارمة، والانقسام السياسي الكبير السائد في البلاد، والذي تجلى الشهر الماضي بأعمق صوره عندما فازت حكومة أنطونيوس ساماراس بثقة البرلمان، بأغلبية محدودة، حصلت بموجبها على تأييد 180 عضواً فقط من أصل 300، وهو ما ينبئ بأن طريق الحكومة الجديدة وما ستتبنّاه من سياسات اقتصادية واجتماعية، لن يكون سهلاً أبداً، في حين أن تنفيذ إجراءات إصلاحية فاعلة يقتضي من كافة الأطراف النافذة في الساحة السياسية أقصى درجات التضامن في مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، ليس في اليونان وحسب، بل في كل الدول التي تعاني أزمات مشابهة.