مع اقتراب نهاية العام 2014، ومع تراكّم السنوات العجاف اقتصادياً، منذ بدء الأزمة السورية في مطلع العام 2011، تُظهر مؤشرات الاقتصاد في لبنان، «رسائل» متناقضة، لكن المحصلة العامة لا تزال تشير الى استمرارية الصمود رغم قوة الضغوطات، بما يطرح علامات استفهام حول نقاط القوة التي لا تزال تمنع الانهيار. مع انتهاء الفصل الثالث من 2014، بدأت تتكشف الارقام التي يمكن البناء عليها لتكوين صورة عن النتائج التي سينتهي عليها العام الجاري، والتحديات التي ستواجه البلد في العام 2015. وبشكل عام، لا تظهر في الافق تطورات ايجابية كثيرة يمكن البناء عليها باستثناء ان التراجع قد يكون بطيئا في بعض المرافق، بما يعطي الامل بامكانية الاستمرار بالحد الأدنى، بانتظار تغيير الظروف المحيطة بالبلد، وتحسين الاوضاع الداخلية.
في الايجابيات النسبية التي سجلها الاقتصاد يمكن ايراد ما يلي:
اولا – النجاح في المحافظة على التصنيف السيادي نفسه (B-)، وهو تصنيف منخفض، لكنه مقبول قياسا بالظروف التي يمر بها البلد. وهذا الامر يعني ان امكانية الحفاظ على استقرار اسعار الفوائد ممكن في الفترة المقبلة، اذا لم تتسبب زيادة الفوائد على الدولار في الولايات المتحدة بارتفاع قسري في اسعار الفوائد في لبنان.
ثانيا – استمرار مصرف لبنان في زيادة حجم الاحتياطي لديه، والذي اقترب من عتبة الاربعين مليار دولار، وهو رقم قياسي غير مسبوق، ويمنح المصرف قدرة اضافية في التحكّم بالوضع النقدي، وحماية الليرة، والتدخّل في السوق من اجل تأمين الحد الادنى من الاستقرار.
هذا الاحتياطي هو الذي سمح للمركزي بضخ مليار دولار اضافي في السوق مخصصة للقروض المدعومة، وهي القروض التي حمت القطاع العقاري من أزمة خانقة. كما ان هذا النوع من القروض يساهم في منح المصارف فرصة اضافية لتحسين ارباحها التي تتراجع منذ سنوات، ولو بوتيرة بطيئة نسبياً.
ثالثا – عدم اقرار سلسلة الرتب والرواتب جنّب الاقتصاد المزيد من الضغوطات التي كانت ستؤدي في احسن الاحوال الى تراجع في القدرة الشرائية لبعض الشرائح غير المستفيدة من السلسلة، والى تضخم ضرائبي يطاول ذوي الدخل المحدود، بالاضافة الى ضغوطات اضافية على المالية العامة.
رابعا – توقعت مؤسسة التمويل الدولية ان يحقق النمو الاقتصادي قفزة جيدة في العام 2015 ليصل الى 3 في المئة، مقابل 1.5 في المئة تحققت في العام 2014.
السلبيات والمخاطر
في موازة هذه الوقائع برزت معطيات سلبية في الاداء الاقتصادي العام، لا يمكن القول انها ترتقي الى مستويات الخطر الوشيك، لكنها تؤشر الى مخاطر يمكن ان تنمو اكثر في الايام المقبلة. ومن ابرزها ما يلي:
اولا- «الخسائر» التي تكبدها مصرف لبنان جراء استمرار تراجع اسعار الذهب عالميا. وتشير بيانات المصرف، على سبيل المثال الى ان قيمة الاحتياطي من الذهب لديه تراجعت حوالي 478 مليون دولار في اسبوعين فقط ( النصف الثاني من تشرين الاول 2014). وقد وصلت قيمة احتياطي الذهب لديه في نهاية الشهر الماضي الى نحو 10,81 مليار دولار.
لكن الخسائر في قيمة الذهب تعتبر معنوية، على اساس ان هذا الاحتياطي مُجمّد بقانون صادر عن مجلس النواب، وهدفه الحفاظ على الثقة. كما ان خسائر الذهب هي سمة مشتركة لكل المصارف المركزية في العالم، والتي تمتلك حوالي 18 في المئة من مجموع الذهب المنتج في العالم.
ثانيا – التباطؤ في تدفق الودائع الى لبنان. هذا التباطؤ وان كان لا يضر الاقتصاد كثيرا في هذه الحقبة على اعتبار ان الحركة الاقتصادية ليست قادرة على استيعاب المزيد من الاموال ما دامت الاستثمارات متراجعة، الا ان ذلك لا يمنع التخوّف من استمرار هذا التراجع ، الامر الذي قد يشكل خطرا على كل المنظومة المالية في البلد، والتي تعتمد بشكل اساسي على تدفق الاموال من اجل الاستمرار في تمويل الدولة ومنع الافلاس.
وقد أظهرت ارقام الاشهر الثمانية الاولى من 2014، نمو ودائع غير المقيمين بنسبة 2.8 في المئة، وهي النسبة الاقل منذ اربع سنوات. وتشكل ودائع غير المقيمين ما نسبته 23 في المئة من مجموع الودائع في المصارف اللبنانية. (حوالي 29.3 مليار دولار). في المقابل نمت ودائع المقيمين 3.9 في المئة وهو النمو الابطأ منذ 8 سنوات.
ثالثا – سجلت الصادرات الصناعية تراجعا ملفتا في العام 2014 ربطه البعض بصورة خاصة بسوق العراق الذي كان يشكل منفذا مهما للصادرات االلبنانية، وقد اصبح شبه مُغلق بسبب التطورات التي شهدها البلد.
رابعا – نما الدين العام بشكل مُقلق نتيجة استمرار زيادة الانفاق العام، وتراجع او ثبات الايرادات في احسن الاحوال. وهناك تقديرات تشير الى أن الزيادة في الدين العام في 2014 سوف تغلق على اكثر من خمسة مليارات دولار، وهو رقم مُرعب، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار ان اسعار الفوائد قد ترتفع في المرحلة المقبلة.
في المحصلة، يمكن القول ان الاقتصاد التي يعاني الوهن والضغوطات لا يزال في وضع مقبول نسبيا، لكنه وضع دقيق لا يحتمل المزيد من المفاجآت. وينبغي أن نأخذ في الاعتبار التغييرات التي طرأت على الاقتصاد العالمي والتي يتأثر بها لبنان سلبا وايجابا، ومن ضمنها تراجع اسعار النفط، والتي قد تخفّض الفاتورة النفطية الباهظة على الخزينة، وتزيد في قدرات المواطن الشرائية، لكنها قد تؤدي الى تراجع اضافي في تدفق اموال غير المقيمين.
الى ذلك، لا بد من الاشارة الى آخر المواقف التي صدرت عن البنك الدولي، وهي ان لبنان سيكون له حصة وازنة في مشروع اعادة اعمار سوريا، وهو المشروع الاضخم اقتصاديا منذ الحرب العالمية الثانية، وبالتالي سيكون الاقتصاد اللبناني المستفيد الاول من هذه الورشة عندما تبدأ. البعض يرى ان هذا «الوعد» هو مثل شراء السمك في البحر. قد يكون هذا الموقف مُبرراً، لكن الرهان على السمك في البحر، هو أقصى الممكن، وقد يكون اكثر واقعية من الرهان على النفط في البحر.