وقف واحد من أقوى رجال روسيا على منبر في فندق سانت ريجيس وهو يحمل رسالة تصالحية إلى أمريكا. قال إيغور سيشين، ضابط المخابرات السوفياتي السابق، الذي يعتبر الآن القوة المهيمنة على صناعة الطاقة الروسية: “في الآونة الأخيرة تعرضت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا إلى عراقيل بسبب تصورات نمطية تاريخية. لكن مضى وقت طويل منذ أن توقفنا عن أن نكون أعداء. والآن حان الوقت لكي نصبح شركاء استراتيجيين من جديد”.
كان ذلك في نيسان (أبريل) 2012. وبهذه الكلمات وقع سيشين اتفاق شراكة واسع النطاق بين روسنيفت، شركة النفط الروسية المملوكة للدولة، وشركة إكسون موبيل. وفي أثناء ذلك فتحت الأبواب أمام شركات الطاقة الغربية لاستغلال الثروة الروسية الهائلة.
واليوم أصبحت الشراكة التي تصورها سيشين، الرئيس التنفيذي لشركة روسنيفت، في مهب الريح. فقد قامت “إكسون”، تحت ضغط العقوبات الغربية، بتجميد كل مشاريعها المشتركة العشرة مع روسنيفت، كما أصبحت شركات غربية أخرى – بدءاً من شركات كبرى مثل شل وتوتال وانتهاء بشركات أصغر من مجموعات خدمات النفط والمجموعات الهندسية – تتراجع عن العمل مع “روسنيفت”.
نتائج ذلك بعيدة المدى. فقد دشن سيشين عهداً من التعاون كان يمكن أن يساعد روسيا على تطوير آفاقها الجديدة في صناعة الزيت “وإعادة روسيا إلى عصر التصنيع.” وعلى الرغم من أن كلمات سيشين كانت مثقلة بالمبالغات، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يشك في حالة الاستعجال الكامنة وراءها، فقد كانت صناعة النفط الروسية تواجه أزمة زاحفة ذات أبعاد وجودية. كانت الحقول النفطية الهائلة في سيبيريا، التي طورت في الفترة السوفياتية، تتقدم في السن، ولولا تطوير موارد جديدة – بدءاً من المحيط المتجمد الشمالي في أقصى الشمال الروسي وانتهاء برواسب النفط الصخري السيبيري – لكان إنتاج النفط الروسي سيتراجع قريباً بصورة عجيبة.
والآن، مع انسحاب الشركات الغربية من روسيا، وبحسب أقوال كثير من المسؤولين الحكوميين والتنفيذيين والمحللين، فإن تطوير هذه الموارد، في أفضل الحالات، سيكون متأخرا، إن لم يكن مصيرها الشطب نهائياً.
قامت الولايات المتحدة وأوروبا بفرض سلسلة من العقوبات على صناعة النفط الروسية رداً على إجراءات موسكو في أوكرانيا، تم بموجبها وضع قيود على الوصول إلى أسواق المال الغربية والحد من صادرات المعدات إليها. وعواقب ذلك على روسيا ستكون وخيمة للغاية، إذ يعتقد كثيرون أن إنتاجها من النفط سينخفض في العام المقبل، وهو أول انخفاض يحدث منذ عام 1998، باستثناء التراجع الذي أصابها في عام 2008، وتوقع هؤلاء أن يكون ذلك بداية لتراجع في الإنتاج طويل المدى.
ويقول ليونيد فيدون، نائب رئيس شركة لوك أويل، وهي أكبر مجموعة نفطية في القطاع الخاص الروسي: “شهد نمو الإنتاج الروسي استقراراً في السنوات القليلة الماضية، لكن بعد اليوم لن تكون هناك أي زيادة في النمو.”
وكانت مؤسسة الاستشارات النفطية، آي إتش إس سيرا، وهي من أكبر المؤسسات في هذا المجال، قد قللت من تقديراتها لآفاق إنتاج النفط الروسي، وتوقعت في تقرير صدر عنها أخيرا أنه إذا استمرت العقوبات الغربية، فسينخفض إنتاج روسيا من النفط من 10.5 مليون برميل في اليوم، إلى نحو 7.6 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2025.
وانخفاض الإنتاج الروسي يمكن أن يعيد تشكيل المستقبل السياسي في البلاد، إضافة إلى أسواق الطاقة العالمية. وتعتمد روسيا على صناعة الطاقة في توفير أكثر من نصف عائداتها – تبلغ عائدات هذه الصناعة 7.3 تريليون روبل ( 171 مليار دولار) في السنة، وفقاً لغرفة حسابات الدولة – وأي انخفاض في الإنتاج عند اقترانه بالانخفاض الأخير في أسعار النفط يمكن أن يهدد قدرة الكرملين على الحفاظ على الاستقرار في البلاد وإبراز قوتها في الخارج.
وعلى نطاق عالمي، يمكن أن يكون أي انخفاض قدره ثلاثة ملايين برميل يوميا في إنتاج النفط الروسي عاملاً موازناً لبعض النمو في المعروض من النفط الناتج عن ازدهار النفط الصخري الأمريكي، الأمر الذي يمكن أن يساعد على إلغاء الفائض الحالي في الأسواق ويحافظ على أسعار النفط عالية في المدى المتوسط.
ثورة النفط الصخري
بعد سنتين ونصف من حديثه في نيويورك، وقف سيشين على متن حفارة نفط في المياه المتجمدة في القطب الشمالي وأعلن النصر. بعد مرور أشهر من الشك، كشفت “روسنيفت” عن أنها وجدت النفط في بحر كارا، وهو واحد من مكامن النفط غير المستغلة بعد، التي يمكن أن تحتوي على خام يماثل الموجود في خليج المكسيك. وقال إن الحقل الجديد سوف يطلق عليه اسم بوبيدا (الانتصار).
تعمَّد سيشين في حينه ذِكْر أسماء جميع الشركات الغربية التي عملت في المشروع، من شركات الخدمات إلى شركات صناعة المعدات التي تبقى عادة خلف الكواليس. وقال: “هذا هو نصرنا المشترك”.
لكن كان ذلك النصر أجوفاً. فبعد أن فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات منعت بموجبها تصدير مجموعة واسعة من البضائع والخدمات والتكنولوجيا إلى ثلاثة أنواع من مشاريع النفط الروسية – وهي القطبية، والمياه العميقة، والنفط الصخري – أصبحت المشاركة الغربية في مثل هذه المشاريع، حسب قول محامين وتنفيذيين، مستحيلة تقريباً.
وبالفعل أبطأت إكسون من مشاركتها في مشروع بحر كارا، ولن تكون قادرة على العودة قبل أن ترفع الولايات المتحدة عقوباتها. وهي ليست وحدها في ذلك. فقد قال آرثر شيلينغاروف، السيناتور الروسي والعضو في مجلس إدارة “روسنيفت”، إنه في ظل ظروف العقوبات لن يكون من السهل إجراء المزيد التعاون مع الشركات الدولية (في القطب الشمالي). روسنيفت – التي كشفت بالأمس أن أرباحها في الربع الثالث من السنة دُمرت تماماً بسبب انخفاض قيمة الروبل وانخفاض أسعار النفط العالمية – تصر على أنها ستستمر في عمليات الاستكشاف في بحر كارا، سواء مع إكسون أو بدونها. لكن أغلب العاملين في الصناعة يشكون في ذلك. ويقول دنكان ميليغان، الاختصاصي في شؤون النفط الروسي في شركة وود ماكنزي الاستشارية: “المنطقة المغمورة في القطب الشمالي مغلقة بالنسبة للمستقبل المنظور.”
ويمكن أن تصبح مخاطرة “إكسون” بالاستثمار في القطب الشمالي أبرز الإصابات الناتجة عن العقوبات الغربية ضد روسيا، ولكن من غير المرجح أن تكون الأكثر أهمية بالنسبة لها. يقول ثين جوستافسون، مؤلف كتاب “ويل أوف فورتشن” الذي هو تاريخ صناعة النفط الروسية: “رغم جميع الاهتمام الموجه لإكسون وروسنيفت، فإن النفط يمكن أن يظهر بعد عقد من الآن”. ويضيف: “أعتقد أن رأس الرمح سيكون هو ما يسميه الناس النفط الصعب.” النفط الصعب، أو النفط الصخري، المعروف في الروسية بـ “النفط الذي يصعب استخراجه”، كان الهدف لجهود كبيرة من جانب موسكو، إذ يأمل الكرملين أن يكرر في روسيا ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة.
ليس من المستبعد، من الناحية النظرية على الأقل، أن تحتوي روسيا حسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية، على أكبر احتياطيات النفط الصخري على الكرة الأرضية، بكميات تصل إلى 75 مليار برميل، إذ يُقدر أن حجم النفط في حقل بازينوف وحده بما يساوي عدة أضعاف ما هو موجود في حقل باكين، المحرك لثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة.
لكن التعاون الغربي في النفط الصخري الروسي هو أيضاً في حالة تعثر. فقد تم تجميد مشاريع “إكسون” مع “روسنيفت” من أجل استكشاف حقل بازينوف، وكان هذا أيضاً مصير مشروع مشترك بين شل وبين غازبروم نيفت، القسم المختص بالنفط في شركة الغاز العملاقة “غازبروم”، وكذلك حدث الشيء نفسه في المشروع المشترك بين “توتال” و”لوك أويل”.
خارج الخدمة
ويقول تنفيذيون ومحامون إن العقوبات حالت بشكل فاعل دون أي مشاركة لشركات النفط الغربية في مشاريع النفط الصخري الروسي – وعلى وجه الخصوص من خلال منع شركات الخدمات التي تعتبر خبرتها أساسية في تنفيذ عمليات الحفر المعقدّة التي تميّز إنتاج النفط الصخري. يقول أحد التنفيذيين الغربيين في موسكو: “ليس بإمكانك لمس حقل بازينوف بعد الآن. لقد انتهى أمره”.
ويرى محللون أن آمال موسكو لإنتاج 440 ألف برميل يومياً من النفط الصخري الروسي بحلول عام 2020 تبدو الآن غير محتملة. ويقول جوستافسون، إن بعض الشركات الروسية تعتقد أنها ستكون قادرة على تطوير موارد النفط الصخري دون مساعدة غربية. لكن روسيا تفتقر لشركات النفط الصغيرة الذكية الرائدة في المشاريع التي دفعت الطفرة في الولايات المتحدة. ويُضيف: “لقد كانت هناك تجربة مثيرة جداً للاهتمام تجري. إذا كان الروس لا يملكون الشركات الصغيرة من النوع الذي فعل العجائب في ولاية داكوتا الشمالية، فإن الرهان كان أنه بإمكان الشركات الكبيرة الدخول ومشاركة شركات حتى أكبر بكثير وبالتالي تحقيق السحر نفسه”. لكن يقول تنفيذيون إن تأثير العقوبات يذهب أبعد حتى من ذلك، بوقوفه في وجه نقل التكنولوجيا المتطورة والخبرة إلى روسيا بالكامل.
تماماً كما تسبّبت العقوبات المالية ضد شركات معينة في جمود أوسع في مجال الإقراض إلى روسيا ككل، كذلك فإن عقوبات قطاع الطاقة تسبّبت بتأثير مُضاعف من “عقوبات التعاطف”، مع قيام الشركات الغربية بالتراجع من السوق الروسية ككل، بغض النظر عن نص العقوبات. ويقول ميليجان: “الأمر ليس فقط ما تقوله العقوبات، بل الأجواء الكاملة التي تخلقها في جميع أنحاء الصناعة”.
هذا القرار يملك الأثر المحتمل الأكبر في قطاع الخدمات – الشركات التي تقوم بالفعل بحفر الآبار، وتصنيع القطع المتخصصة، وتوفير الخبراء لتحليل النتائج. هذه الوظائف يتم توفيرها بشكل ساحق من قِبل الشركات الغربية – أمثال شلومبرجر، وهاليبورتون، وبيكر هيوز – في مشاريع روسيا الأكثر صعوبة من الناحية الفنية. حيث تمثّل الشركات الغربية نحو نصف التكنولوجيا المستخدمة في مشاريع النفط الذي يصعب استخراجه وأكثر من 80 في المائة من التكنولوجيا المستخدمة في الخارج، بحسب وزارة الطاقة الروسية.
ومع أن التقنيات، مثل التكسير والحفر الأفقي مرتبطة بالزيت الصخري، إلا أنها تُستخدم على نطاق واسع لزيادة الإنتاج من حقول النفط الأكثر تقليدية، مع جيوب النفط التي تقع في تشكيلات الصخور التي من الصعب الوصول إليها. كما حدث تراجع أوسع من قِبل شركات الخدمات الغربية القلقة بعمق على المسؤولين التنفيذيين في شركات النفط الروسية. قطاع ضعيف
فاجيت أليكبيروف، الرئيس التنفيذي لشركة لوك أويل، أبلغ رئيس الوزراء، ديمتري ميدفيديف، أخيرا أن 25 في المائة من إنتاج النفط الروسي ينطوي على التكسير ويعتمد على شركات الخدمات الغربية. وقال: “هذا هو الجزء الأكثر ضعفاً، بحيث يكون أول ما يُلحق الضرر بصناعة النفط”.
ورغم أن معظم شركات الخدمات الغربية أكدّت علناً التزامها لروسيا، إلا أن المنافسين والعملاء يقولون إن هناك دلائل واضحة على أنها تتراجع.
ووفقا لمسؤولين تنفيذيين، أصبح من الصعب الآن الحصول على بعض القطع المتخصصة من المعدات المستخدمة في الحفر الأفقي والتكسير، والإنتاج في المنطقة المغمورة. من بينها أنظمة منصّات البواخر الملاحية، التي يتم استخدامها لإعداد الآبار للحفر؛ وآلات تجميع قاع الحفرة، وجمع الأجزاء حول المثقاب؛ ومحركات الضغط العالي المُصممة خصيصاً للتكسير. وهذا أثار مخاوف من أنه حتى حقول النفط التي تقوم بالإنتاج بالفعل قد تواجه صعوبات عندما تصبح المعدات بحاجة إلى الاستبدال.
ويقول أحد كبار التنفيذيين في شركة نفط روسية صغيرة: “إذا فقدت آلة تجميع قاع الحفرة عندها يصبح من الصعب استبدالها. حتى الآن التأثير خفي، لكنه سيزداد سوءاً”. فالديمير شماتوفيتش، رئيس قسم الاستراتيجية في شركة تصنيع الأنابيب الروسية TMK، يقول إن المنافسين الغربيين كانوا يخرجون من السوق حتى من مناطق لا تستهدفها العقوبات بشكل مباشر، مثل بحر قزوين. ويضيف: “حصة شركات تصنيع الأنابيب الغربية من السوق الروسية تقلّصت بشكل كبير والآن خرجت بالكامل تقريباً”. ويقول أحد المسؤولين التنفيذيين الغربيين إن شركته كانت مضطرة لتجميد أحد المشاريع بعد انسحاب شركات الخدمات.
وبحســـــب جـــوستافسون: “إذا كانت شركات الخدمات غير قادرة على ممارسة سحرها، عندها فإن ذلك بالفعل قد يُلحق الضرر بقدرة الإنتاج في شركات النفط الروسية لتنتقل من النفط التقليدي إلى غير التقليدي”.
وفي موسكو، الشعور بالحاجة المُلحّة واضح. يقول فيدون من شركة لوك أويل: “للحفاظ على المستوى الحالي من الإنتاج، نحتاج إلى حفر 30 مترا، وليس 20 مترا كما نفعل الآن. مثل هذا المستوى يتطلب زيادة في حجم فِرق الحفر بنسبة 60 في المائة. لكن نظراً لحقيقة أن شركات المقاولات الغربية تخفف من أعمالها في روسيا، فإن مثل هذه الزيادة أمر مشكوك فيه للغاية”.
الكرملين يستجيب
من المرجح أن تستفيد الشركات التي تعاني عقوبات من صندوق الثروة الوطنية المحتوي على 83 مليار دولار – المُصمّم لتمويل معاشات التقاعد الحكومية في البلاد. “روسنيفت” وحدها طلبت قرضا يبلغ تريليوني روبل (48 مليار دولار)، على الرغم من أن المسؤولين في الحكومة يُشيرون إلى أنها من المرجح أن تحصل على أقل من ذلك بكثير. وربما بدأ البعض النظر بحنين إلى صناعة النفط السوفياتية. ويذكر أليكبيروف أنه عندما كان يتولّى منصب نائب وزير النفط في الاتحاد السوفياتي السابق في أواخر الثمانينيات “كان 100 في المائة من المعدات مصنوعة في الاتحاد السوفياتي”. ويحذر الآن من أن استبدال المعدات والخدمات الغربية يتطلب “أموالا طائلة”.
تماماً كما في عهد الاتحاد السوفياتي، يقول فاليري نيستيروف، كبير محللي النفط في سبيربانك، إنه من المرجح أن تقوم روسيا بضخ أموال لعلاج المشكلة. ومن بين الخيارات التي يتم أخذها في الحسبان، يوجد خيار إنشاء شركة خدمات نفطية مملوكة للدولة لتحلّ محل الشركات الغربية.
ويقول نيستيروف، مستذكراً برنامج الفضاء السوفياتي: “روسيا تملك تقليدا في التركيز على المشاريع ذات الأولوية والنجاح. نظراً لأهمية قطاع النفط للبلاد، في حال انخفض الإنتاج بشكل حاد، سيتم اتخاذ التدابير اللازمة كافة لتحسين الوضع”.