IMLebanon

الغذاء .. في دائرة الصراعات والمناخ والهدر

FoodPrices
محمد كركوتي
الفارق بين دولة نفطية كفنزويلا باتت مضطرة لاستيراد الوقود وبين مجموعة من الدول الزراعية تواجه نقصا في الغذاء أن الأولى وصلت إلى هذه الوضعية نتيجة سياسة تخريبية خرقاء نفذها رئيسها الراحل هوغو تشافيز على مدى سنوات، أما بلوغ الدول الزراعية حالة نقصان الغذاء فهو مسؤولية جماعية تشترك فيها حكومات الدول نفسها إلى جانب حكومات دول أخرى في العالم. إنها نتاج سياسة محلية إقليمية عالمية. بينما حالة فنزويلا محلية خالصة. والعجب يبقى موجودا في الحالتين وربما اختصرته بأفضل بلاغة إحدى قصائد طرفة بن العبد “كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول”. دولة نفطية تستورد النفط، ودول زراعية مهددة في الواقع بمجاعات!

الأضرار الزراعية التي تحذر منها أكثر من جهة دولية لا تشمل فقط نقص الغذاء بتراجع مستويات المنتج الزراعي، بل تنال مباشرة من سكان البلدان المهددة عن طريق إخراج أعداد هائلة منهم من العمل وانضمامهم إلى صفوف المتعطلين. وبحسب شركة “مابلكروفت” الاستشارية البريطانية فإن ما يقرب من 65 في المائة من سكان 32 دولة يعملون في الزراعة، التي تمثل ما بين 28 و30 في المائة ناتجها المحلي. أي أن الكارثة غذائية واجتماعية أيضا. وهذه الدول تتعرض لصراعات واضطرابات منذ سنوات بأشكال مختلفة، وأطراف متعددة (منها خارجي). ولا يبدو في الأفق أي مؤشر على تراجع حدة هذه الصراعات، بل إن المختصين يتوقعون استمرارها لـ 30 عاما مقبلة. مما يعني، أن نقص الغذاء الآن سيتحول تدريجيا إلى مجاعة لاحقا، الأمر الذي يزيد من مسؤولية العالم عن كوارث محققة، أو في أفضل الأحوال شبه مؤكدة.

إن غالبية هذه البلدان تقبع في إفريقيا والبقية في القارة الآسيوية. علما بأن آثار المجاعة التي عمت القارة الإفريقية في ثمانينيات القرن الماضي لا تزال ماثلة على النسيج الاجتماعي في غير بلد إفريقي. والصور المؤلمة لأطفال ببطون منفوخة وأطراف مثل أعواد الكبريت لم تغب على الأقل عن أولئك الذين يشعرون حقا بالهم الإنساني لا السياسي.. بهمّ البشر لا بهموم الأحزاب والتيارات والقبائل وغيرها. وبصرف النظر عن تحسن أوضاع الغذاء بشكل عام في السنوات القليلة الماضية في المناطق التي شهدت الكوارث الغذائية إلا أن هذا لا يخفف من الحقيقة القادمة في الطريق. بنجلادش وسيراليون وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد وهاييتي وإثيوبيا والفلبين وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا كلها عرضة للخطر الماحق، يضاف إليها دول سريعة النمو حقا، لكنها مهددة بلقمتها مثل كمبوديا والهند وميانمار وباكستان وموزامبيق.

وإنصافا للحالة التي تعيشها البلدان المذكورة لا بد من الإشارة إلى أن عوامل المناخ تسهم هي أيضا في المأساة المتعاظمة. ويؤكد المختصون أنهم لم يتوقعوا هذا القدر من الصلة بين الأمن الغذائي وتغير المناخ. وهنا تزداد مسؤولية المنظمات الدولية ليس فقط في توصيف المشهد المأساوي العام، بل أيضا في التثقيف المطلوب لمواجهة استحقاقات البيئة وتوفير الأدوات السريعة واللازمة لذلك. في مقابلة أجريتها مطلع تسعينيات القرن الماضي مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران قال: “كيف يمكن أن نطلب من امرأة في قرية إفريقية نائية التوقف عن قطع شجرة للطبخ لأطفالها إذا لم نوفر لها نحن الوقود؟!”. أي أن حماية البيئة وحماية البشر منها أيضا لا تتم نظريا وتخويفيا، بل بأدوات فاعلة وذات جدوى. والمسؤولية لا تختص بتلك المرأة الإفريقية، بل بالمجتمع الدولي كله.. بالدول القادرة على إحداث التغيير وليس فقط التحذير من الأسوأ القادم.

والأمر هنا لا يتعلق فقط بالصراعات المحلية والإقليمية وبالتغير المناخي، بل يشمل أيضا وبصورة مرعبة كميات الغذاء التي تهدر حول العالم. ففي آخر إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة جاء أن العالم يهدر 30 في المائة من الغذاء. وهذه الكميات الهائلة تكفي لإطعام 800 مليون جائع! وطبقا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن ما يقدر بنحو 1.3 مليار طن من الإنتاج العالمي للغذاء تفقد أو تهدر سنويا. وبحسب التفاصيل، فإن أكثر من 40 في المائة من المحاصيل الجذرية والفواكه والخضراوات و20 في المائة من البذور الزيتية و35 في المائة من الأسماك لا تصل لأفواه الجائعين في العالم. والحقيقة، أن هذه الكميات المهدرة، تكفي البلدان الـ 32 المهددة بنقص الغذاء ومعها بلدان أخرى أيضا.

يقول العالم البيولوجي الأمريكي الراحل نورمان بورلوج: “الإنسانية كما نراها اليوم ما كانت لتتطور وتنجو بلا إمدادات غذائية كافية”. وكما تهددت الإنسانية في السابق في بعض مناطق هذا العالم فإنها معرضة للمزيد من التهديد في المناطق نفسها تقريبا على الرغم من بعض الإنجازات التي تحققت في العقود الثلاثة الماضية. مع التأكيد على أنه حتى هذه الإنجازات دخلت دائرة الخطر وتنتظر منقذين لا سياسيين.. منقذون يتعاملون مع حالة بشرية متفاقمة.