محمد إبراهيم السقا
نشر صندوق النقد الدولي أخيرا تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي في 2014 الصادر في شهر أكتوبر الماضي، ووفقا لقاعدة بيانات التقرير، بلغت تقديرات الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (الكميات المنتجة من السلع والخدمات النهائية في ذلك العام مضروبة في الأسعار السوقية لتلك السلع والخدمات) للصين في عام 2014 نحو 9.469 تريليون دولار، في الوقت الذي يقدر فيه الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بالأسعار الجارية بنحو 17.416 تريليون دولار، أي أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني بالأسعار الجارية يمثل نحو 54.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي فقط.
من ناحية أخرى فإن الصندوق يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين في 2019 إلى 15.518 تريليون دولار، بينما يتوقع أن يزداد الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بالأسعار الجارية إلى 22.174 تريليون دولار في السنة نفسها، أي أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني، حتى بمعدلات النمو المرتفعة حاليا، لا يتوقع أن يتجاوز 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في 2019، ومن ثم فإن الحديث عن أن الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز الاقتصاد الأمريكي في هذا العقد غير صحيح وفقا لهذه التوقعات للناتج المحلي الإجمالي في الدولتين بالأسعار الجارية.
غير أن قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخيرة قد حملت مفاجأة لجميع المراقبين، وهي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية Purchasing Power Parity PPP فإن الاقتصاد الصيني يتحول إلى أكبر اقتصاد في العالم، بل ويتجاوز لأول مرة في التاريخ الحديث حجم الاقتصاد الأمريكي. ففي مقابل الناتج الأمريكي في عام 2014 والذي يساوي 17.416 تريليون دولار، بلغت تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الصيني بتعادل القوة الشرائية 17.632 تريليون دولار، أي أن الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الأمريكي بنحو 1.2 في المائة. غير أنه بمرور الوقت فإن الهوة بين الاقتصادين تتسع، على سبيل المثال يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الصيني بحسابات تعادل القوة الشرائية في عام 2019 إلى 26.867، بينما يقتصر الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي على 22.174 تريليون دولار، أي أن حجم الاقتصاد الصيني يتوقع أن يفوق حجم الاقتصاد الأمريكي بنحو 21 في المائة في ذلك العام.
فماذا يعني تعادل القوة الشرائية؟ وكيف يصبح الاقتصاد الصيني أكبر اقتصاد في العالم وفقا لهذا المدخل؟ وكيف يتم تقدير الناتج باستخدام هذا الأسلوب؟ لتبسيط الفكرة دعنا نفترض أن متوسط دخل الفرد الصيني هو عشرة آلاف دولار أمريكي سنويا، بينما متوسط دخل الفرد الأمريكي هو عشرة آلاف دولار أمريكي سنويا، أي عشرة أضعاف متوسط دخل الفرد في الصين. إذا كان المستوى العام للأسعار واحدا في كلتا الدولتين، وكانت القوة الشرائية للدولار في الدولتين واحدة، بمعنى أن كمية السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها بدولار واحد في كل من الصين والولايات المتحدة واحدة، فإن ذلك يعني أن الفرد في الصين بدخله هذا يمكنه الحصول على عشر كمية السلع والخدمات التي يمكن أن يشتريها الأمريكي بدخله في الدولتين، بينما يمكن للأمريكي أن يحصل على عشرة أضعاف السلع والخدمات التي يمكن أن يشتريها الصيني في الدولتين.
دعنا الآن نفترض أن متوسط أسعار السلع والخدمات في الصين مقومة بالدولار هو نصف متوسط أسعارها في الولايات المتحدة، فإن ذلك يعني أن الفرد الصيني بمتوسط دخل ألف دولار يمكنه الحصول على ضعف السلع والخدمات التي يحصل عليها الأمريكي في أمريكا بالمبلغ نفسه، أي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية، فإن متوسط الدخل الحقيقي للشخص الأمريكي لا يساوي عشرة أضعاف دخل الفرد في الصين، وإنما يساوي خمسة أضعاف فقط، رغم أنه من الناحية الاسمية يصل دخل الفرد الأمريكي إلى عشرة أضعاف دخل الفرد الصيني في المثال السابق، وذلك بسبب فروق الأسعار في الدولتين.
وفقا لتعادل القوة الشرائية يتم استخدام معامل للتحويل يمكننا من أن نقوم بمقارنة مجموعات السلع والخدمات التي يتكون منها الناتج المحلي الإجمالي للدول، حيث يخبرنا هذا المعامل عن عدد الدولارات التي يجب أن نحتاج إليها في الصين لكي نشتري سلعا ما مقارنة بالولايات المتحدة، لتبسيط طريقة الحساب أفترض أن تذكرة السينما تكلف خمسة دولارات في الولايات المتحدة، بينما تكلف ثلاثة دولارات في الصين، معنى ذلك أن تعادل القوة الشرائية بين الصين والولايات المتحدة بالنسبة لأسعار هذه الخدمة هو 3/5=0.6، أي أن الصينيين ينفقون 60 في المائة مما ينفقه الأمريكيون للحصول على هذه الخدمة، وعلى العكس فإن معامل التحويل لتعادل القوة الشرائية هو 1.67، بمعنى أن الأمريكيين ينفقون 1.67 ضعف ما ينفقه الصينيون للحصول على الخدمة نفسها، أي أن الأسعار في أمريكا لهذه السلعة تزيد 67 في المائة على سعرها في الصين، إذا قمنا بإعادة حساب الناتج المحلي الصيني من هذه الخدمة أخذا في الاعتبار فروق تكاليف الحصول عليها، فإننا نصل إلى تقدير أكثر واقعية للناتج المحلي الصيني لهذه الخدمة بالدولار.
لاحظ أنه باستخدام تعادل القوة الشرائية يتم مقارنة الناتج المحلي الإجمالي ومكونات الإنفاق عليه بعملة موحدة بحيث يمكن المقارنة بين الدول حسب الحجم باستخدام منهج أكثر تعبيرا عن القوة التي يمثلها كل اقتصاد مقارنة بالاقتصادات الأخرى في العالم، من خلال تحويل الإنفاق على المجموعات السلعية المختلفة من العملة المحلية إلى عملة موحدة وليكن مثلا الدولار، حتى تسهل عملية المقارنة بين الدول، وهكذا فإننا لو أخذنا فروق أسعار السلع والخدمات بين كل من الصين والولايات المتحدة يصبح الاقتصاد الصيني أكبر من حيث الحجم من الولايات المتحدة بتعادل القوة الشرائية، هذا بالطبع لا يعني ضمنا أن نصيب الفرد الصيني من الدخل أكبر من نصيب الفرد الأمريكي، فهناك فارق شاسع بين الاثنين لاختلاف أعداد السكان بينهما على نحو واضح.
ولكن لماذا يلجأ صندوق النقد الدولي لمثل هذا الأسلوب في المقارنة بين الناتج المحلي الاجمالي لمختلف الدول؟ المشكلة تكمن كما أوضحنا في الفروق الحقيقية في الأسعار وكذلك معدلات صرف العملات، فعندما لا تعكس معدلات الصرف القيمة الحقيقية للعملة، فإن قياسات الناتج باستخدام عملة دولية مثل الدولار لا تعكس القيمة الحقيقية للناتج لدول العالم، على سبيل المثال تحرص الصين دائما على أن تكون عملتها ضعيفة أمام العملات الرئيسة، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك لأغراض تجارية، أي حتى تحافظ على عملتها رخيصة بالنسبة للدولار، وحتى تتمكن من الحفاظ على تنافسيتها مرتفعة أمام شركائها التجاريين مثل الولايات المتحدة. إذا افترضنا أن الرينمنبي الصيني مقيم بأقل من قيمته الحقيقية بـ 25 في المائة، فإن ذلك يعني أننا يجب أن نرفع القيمة المحسوبة للناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 25 في المائة، حتى يعكس القيمة الحقيقية للعملة الصينية، وهكذا فإن تعادل القوة الشرائية يصبح مفيدا في التعرف على القيمة الحقيقية للناتج في دول العالم إذا لم تكن معدلات الصرف بين عملات الدول غير مقيمة على نحو سليم.
بتعادل القوة الشرائية إذن تحول الاقتصاد الصيني هذا العالم إلى أكبر اقتصاد في العالم، بل إن الهوة بينه وبين ثاني أكبر اقتصاد وهو الاقتصاد الأمريكي تتسع بمرور الوقت.