حيدر الحسيني
«من لا يأسف لانهيار الاتحاد السوفياتي لا قلب له، كما لا رأس لمن يريد إحياءه بشكله السابق».
لعلها أشهر عبارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى استذكاره أمجادَ اتحاد آفِل عمِل فيه ضابطاً للاستخبارات، قبل أن ينهار عام 1991، ليصبح، على أنقاضه لاحقاً، رئيساً لجمهورية روسيا الفيدرالية، حالماً بميزان دقيق بين سعي لإحياء نفوذ سوفياتي ضائع تأسيساً على مقاربات وتحالفات اقتصادية وسياسية مختلفة.
يمكن القول إن «عهد بوتين» في الحكم بدأ منذ 15 عاماً، تحديداً في آب 1999، عندما تولى رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسن، قبل أن تنتقل صلاحيات الأخير إلى بوتين بالوكالة في العام نفسه، ليُنتَخب عام 2000 رئيساً للبلاد ويُعاد انتخابه في 2004، قبل أن يشغل منصب رئيس الوزراء مجدداً بالتنسيق مع ديمتري ميدفيدف، الذي فاز برئاسة البلاد في أيار 2008 بدعم من بوتين، ليعود هذا الأخير إلى تولي هذا المنصب اعتباراً من آذار 2012.
في العهد «البوتينيّ»، نجحت روسيا – إلى حد كبير- في إنعاش اقتصادها الوطني، مستفيدةً من الثروات الطبيعية التي تختزنها، ومن الانفتاح على العالم شرقاً وغرباً، وأفلحت – إلى حد ما- في استرجاع جزء من بريق نفوذ سياسي عالمي مفقود على أطلال «السوفيات».
غير أن طموحها الجارف، بجناحيه الاقتصادي والسياسي، أضحى يصطدم اليوم بعقوبات تضييقية غربية يبدو أنها بدأت تقلّم مخالب الدب الروسي وترسم حدود لجموح «القيصر الجديد»، في اتجاه تتزايد معه التحذيرات من سير العالم بخطى متسارعة نحو «حرب باردة» جديدة.
ديبلوماسية أقل، صدام أكثر
على خلاف هدوء وكياسة الصين، حليفتها وحليفة حليفتها، إيران، لم تيأس روسيا- بوتين تكراراً من محاولة التعامل مع الغرب بسياسة اتسمت بالقليل من الديبلوماسية والكثير من الصدامية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمصير مراكز نفوذها النادرة، ابتداءً من باحتها الخلفية التي تضم الجمهوريات السوفياتية السابقة، وتحديداً جورجيا وأوكرانيا، وصولاً إلى سوريا، نافذتها الوحيدة على حوض البحر الأبيض المتوسط.
في تجاذباتها «الباردة» مع الغرب، لم تدّخر موسكو أي «سلاح أبيض» متاح لديها إلا استخدمته، من حق النقض «الفيتو» الذي لجأت إليه (أحياناً بالتضامن مع الصين) في مجلس الأمن بوصفها أحد أعضائه الخمسة الدائمين، والمسارعة إلى فرض عقوبات تجارية على الغرب مباشرة بعدما فرض عليها عقوبات بذريعة موقفها من الأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى السعي حثيثةً لتهميش الدولار الأميركي والعملة الأوروبية الموحدة، ناهيك عن الانخراط في تحالفات دولية اقتصادية سياسية («بريكس» مثلاً) تأمل منها أن تكون «موازية» للتكتلات التي تقودها الولايات المتحدة ويشارك فيها الاتحاد الأوروبي بفعالية.
عدم الانسجام مع توجهات الغرب، إن لم نقل عدم الانصياع لسياساته، وأبرزها ما يتعلق بمسائل أوكرانيا وسوريا وإيران، دفع بروسيا إلى واجهة التصادم مع عواصم القرار الكبرى على ضفتيّ الأطلسي، وهي ملفات كانت مدار بحث بدون جدوى مُعلنة- بين بوتين ونظيره الأميركي باراك أوباما الثلاثاء الماضي على هامش قمة «منتدى التعاون الاقتصادية لدول آسيا – المحيط الهادئ» (آبيك) في بكين.
انتكاسة مسار النمو
أنتج التصادم ثمناً اقتصادياً باهظاً، ليس في روسيا وحدها، بل في أوكرانيا والعديد من الدول الأوروبية المعتمدة على حركة تجارية نشطة مع موسكو وعلى صادرات الغاز الحيوية لسدّ قسط كبير من احتياجاتها الاسترايجية لمصادر الطاقة.
العواصم الأوروبية تعُجّ بمتظاهرين (أساساً مزارعين) محتجين على نتائج العقوبات الغربية التي أجبرت روسيا على فرض عقوبات مضادة تحظر الاستيراد من الدول المشاركة في العقوبات عليها، بينما تغيب من شوارع روسيا أي تحرّكات لافتة محتجة على سياسات بوتين، رغم التبِعات الوخيمة على اقتصاد البلاد والقيمة الشرائية للمواطنين، لا بل يمكن القول إن الموقف الروسي الحازم شدّ العصب القومي، وأنتج تعاطفاً شعبياً مع توجهات الرئيس.
من أبرز ملامح الاقتصاد الروسي المأزوم الآن الانحسار الحاد لمؤشرات النمو والتدهور المتسارع في قيمة العملة، فضلاً عن خسائر استثمارية ومالية بمئات مليارات الدولارات.
وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي المجمل الروسي 3,8 في المئة بين عامي 1996 و2005، ثم ارتفع بقوة إلى 8,2 في المئة و8,5 في المئة عامي 2006 و2007 على التوالي، قبل أن ينحسر إلى 5,2 في المئة عام 2008 مع بداية الأزمة المالية العالمية، ليُمنَى في العام التالي بانكماش قوي بلغت نسبته -7,8 في المئة.
لكن اقتصاد روسيا عاد إلى النمو، مسجلاً 4,5 في المئة سنة 2010، واستقر على 4,3 في المئة عام 2011، ثم هبط قليلاً إلى 3,4 في المئة عام 2012، ليدفع ثمناً واضحاً مع بداية الأزمة الأوكرانية في 2013، التي ختمها بنمو متواضع نسبياً عند 1,3 في المئة. الآن، تشير توقعات صندوق النقد إلى هبوط قوي للنمو إلى 0,2 في المئة خلال العام الجاري، مع شبه استقرار عند 0,5 في المئة العام المقبل.
في تعرّجات هذا الهبوط الدراماتيكي، ثمة تفاصيل كثيرة تنطوي على إشارات لا تبشّر بالخير، دفعت بالمصرف المركزي الروسي (العالم بالخفايا الداخلية) الأسبوع الفائت إلى اتخاذ موقف أكثر تشاؤماً، وذهب في ترجيحاته إلى أن تواجه روسيا 3 أعوام من الركود المتواصل بين عامي 2014 و2016، بمعنى أن يعادل النمو صفراً خلال هذه الفترة، مترقّباً استمرار العقوبات الغربية حى نهاية 2017 على أقل تقدير.
تحت وطأة هذا الضغط، ألغى «المركزي» سياسة تعويم الروبل مقابل سلة من عملتي الدولار واليورو، ما يعني إلغاء نطاق التداول الذي كان معتمداً لتحديد سعر الصرف، بعدما قرر قبل ذلك بأيام وقف تدخله في سوق القطع كان يكلفه زهاء 350 مليون دولار يومياً، على أن يتدخل فقط في حال بروز تهديد لـ«الاستقرار المالي»، وهو ما دفع بالرئيس بوتين إلى تأكيد استقرار سعر الروبل قريباً، بعدما خسر ربع قيمته منذ مطلع العام الجاري، وإعرابه عن ثقته بتدابير «المركزي»، الذي توقع أيضاً أن تؤدي أزمة أوكرانيا هذه السنة إلى هروب رساميل تناهز 128 مليار دولار، وأن يتعدى التضخم 8 في المئة.
بعبارة موجزة، روسيا مقبلة، بدون شك، على موجة من انحسار السيولة ومحاولات التقويض لحركتها الاقتصادية إلى حدود غير معلومة بعد، لكن الأكيد أيضاً أن ظروف روسيا، القوة النووية المعترف بها دولياً منذ عقود مديدة، والتي تختلف كثيراً عن ظروف إيران، تتمتع بقدرة كبيرة على الصمود في وجه ضغوط خارجية استطاعت شبيهتها أن تنهك الجمهورية الإسلامية.
تستعين موسكو في المواجهة أساساً بحاجة الغرب إلى مصادر الطاقة المتوافرة لديها والموصولة بالشبكة الأوروبية، وبموقعها الجيوسياسي الاستراتيجي بالنسبة للقارة العجوز، وبشبكة مهمة من العلاقات الدولية مع دول ناشئة طامحة للعب دور أكبر على الساحة الدولية، ومتكئة على العديد من البدائل المُتاحة من الحصار الغربي، وما أدل على ذلك من توقيعها مع الصين قبل أيام إطاراً عملياً لتوريد 38 مليار متر مكعب من الغاز، ضمن اتفاقات طاقة وتجارة وتمويل وتبادل عملات بـ150 مليار يوان (25 مليار دولار)، بهدف تأمين السيولة اللازمة والحد ما أمكن – من نفوذ العملة الأميركية.
ولأن الدعاية لعبت دوراً تاريخياً وثقافياً مهماً في انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، تنبّهت موسكو هذه المرة إلى أهمية المحافظة على صورتها إيجابيةً أمام الرأي العام العالمي المتململ في كثير من الأحيان من الهيمنة الغربية، فجاء قرارها الاستعانة بذراع إعلامية تعينها في تحقيق هذا الهدف، عبر إطلاق خدمة وسائط متعددة (ملتيميديا) باسم «سبوتنيك» تموّلها من الدولة بهدف التصدّي لما سمّته «الدعاية العدائية» وتقديم «تفسير بديل» للأحداث العالمية.
عليه، يبدو واقعياً إقرار البيت الأبيض الذي يقود الحملة الضاغطة، بأن العقوبات تؤثر في اقتصاد روسيا «لكنها لم تغير حتى الآن حسابات موسكو»، التي من الواضح أنها قرّرت بقيادة بوتين أن تأخذ على عاتقها المجازفة بمخاطر مواجهة قاسية مهما كان الثمن.