خبراء الاقتصاد الألمان يقعون تقريبا في مجموعتين: أولئك الذين لم يقرأوا كينز، وأولئك الذين لم يفهموا كينز. إذا وصفنا التيار الاقتصادي في ألمانيا بأنه محافظ، فإن هذا يعني أننا لم نفهم لب الموضوع. هناك بعض التداخل بين مختلف المدارس الكلاسيكية الجديدة، أو مدارس المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وكذلك مدارس في أماكن أخرى. لكن رغم أن المقارنة بين التيار الألماني الرئيس وحزب الشاي مقنعة، إلا أنها لن تنجو من عملية التدقيق. العقيدة الألمانية السائدة تقع على جانبي يسار الوسط ويمين الوسط. الحزب الوحيد الذي لديه بعض الميول الكينزية هم الشيوعيون السابقون.
وخير مثال على العقيدة السائدة كان التقرير السنوي الذي صدر الأسبوع الماضي عن مجلس الخبراء الاقتصاديين، وهو الهيئة الرسمية التي تقدم المشورة للحكومة. إنهم لم ينتقدوا فيه نقص الاستثمارات، أو فوائض الحساب الجاري المفرطة، أو الاستقامة المفرطة في المالية العامة. بدلا من ذلك انتقدوا الحد الأدنى للأجور وبعض التراخي الطفيف في سن التقاعد. وبعبارة أخرى، إنهم يريدون من حكومة المستشارة أنجيلا ميركل أن تكون أكثر صرامة.
لدى الألمان اسم مخصص لهذا الإطار الاقتصادي الفريد: الليبرالية المنظمة. أصولها مشروعة تماما – هي استجابة النخب الليبرالية في ألمانيا لانهيار الديمقراطية الليبرالية في عام 1933. وقد ولدت من ملاحظة أن النظم الليبرالية المتحررة من القيود غير مستقرة بطبيعتها، وتتطلب القواعد وتدخل الحكومة لاستدامة نفسها. كانت مهمة الحكومة لا تتمثل في تصحيح إخفاقات السوق ولكن في وضع القواعد وتطبيقها.
بعد عام 1945 أصبحت الليبرالية المنظمة هي المذهب الاقتصادي السائد ليمين الوسط. وفي التسعينيات بدأ الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقبولها، وبلغت ذروتها في إصلاحات العمل ونظام الرعاية الاجتماعية التي نادى بها جيرهارد شرودر في عام 2003. أما اليوم فتعتبر الحكومة ليبرالية منظمة. وتعتبر المعارضة ليبرالية منظمة. وتدرّس الجامعات اقتصاد الليبرالية المنظمة. في هذه الأثناء، يعتبر الاقتصاد الكلي في ألمانيا وأماكن أخرى بمثابة الأكوان الموازية.
في الواقع، الاستثنائية في الاقتصاد الكلي الألماني لم تكن تهم كثيرا – حتى وقت قريب، عندما بدأت تهم كثيرا. فعندما تكون لديك عملتك الخاصة وتنخرط مع بقية العالم بشكل أساسي من خلال التجارة، فإن أية أيديولوجية سخيفة تعتبر مشكلتك أنت. ذلك يتغير عندما تدخل الاتحاد النقدي، أي عندما ينبغي لصناع السياسات العمل معا.
لم يكن هناك من أعار الكثير من الاهتمام لهذه المسألة. الجانب الكبير من النقاش حول النظرية الأولى في منطقة اليورو تركز على فكرة وجود منطقة العملة المثلى: ما هي البلدان التي تصلح للانضمام إلى الاتحاد النقدي؟ ما تبين أنه أكثر أهمية بكثير هو التفاهم المشترك الذي يتيح للناس التواصل والعمل مع بعضهم بعضا.
مثلا، الليبرالية المنظمة الألمانية ترفض مجرد الاعتراف بوجود فخ السيولة النقدية، حيث يصبح البنك المركزي عاجزا عن التأثير على أسعار الفائدة في السوق. لودفيج إيرهارد، وزير الاقتصاد الألماني المبجل في الخمسينيات، حاول مرة تفسير الكساد الكبير بدلالة التكتلات الاحتكارية. كانت تلك محاولة الليبرالية المنظمة لجلب شيء إلى الإطار العقلي من النوع الذي لم تكن لديهم بشأنه تفسيرات واضحة. كرر خلفاء إيرهارد الخطأ نفسه في أزمة منطقة اليورو، التي يعتبرونها قصة انضباط مالي.
في الوقت الحالي، هناك ثلاث قضايا أساسية مع الليبرالية المنظمة لها أهمية على نطاق أوسع. أولا، الليبراليون المنظمون ليست لديهم سياسة متماسكة للتعامل مع حالات الكساد – الكوارث التي تحدث مرة واحدة أو مرتين في القرن. كلما أسأل أحدهم عما ينبغي للمرء القيام به في حالة الكساد، عادة ما يتضمن الجواب بعض الإشارة إلى “التدمير الخلاق”.
ثانيا، الليبراليون المنظمون يفتقرون إلى إطار سياسة نقدية متماسكة تتبع لهم. لقد اعتادوا أن يكونوا من أتباع النظرية النقدية. وتعاملاتهم اليوم هي في الغالب غير متناسقة.
انتقادي الثالث يعتبر أكثر جوهرية. وهو أنه ليس من الواضح ما إذا كانت العقيدة الليبرالية المنظمة تترجم من اقتصاد صغير مفتوح نسبيا مثل اقتصاد ألمانيا إلى اقتصاد مغلق كبير مثل اقتصاد منطقة اليورو. وجهة نظر العالم الليبرالي المنظم غير متماثلة. تعتبر فوائض الحساب الجاري أكثر قبولا من العجز. ولأن القواعد تستند إلى القانون الوطني، لا يهتم الليبراليون المنظمون بتأثيرها على بقية العالم. لكن عندما تبنوا اليورو، فجأة بدأت بقية العالم تبدو مهمة.
قامت العقيدة الليبرالية المنظمة بعمل جيد لألمانيا، على الرغم من أنه يغلب على ظني أن النجاح الاقتصادي في البلاد يرجع في الغالب إلى التكنولوجيا والمهارات العالية ووجود بعض الشركات الممتازة، بدلا من الســــــياسة الاقتصادية. ومن خلال هيمنة ألمانيا على نظام اليورو، تقوم بتصدير أيديولوجية الليبرالية المنظمة إلى بقية كتلة العملة الموحدة. ومن الصعب التفكير في عقيدة تعتبر غير ملائمة لاتحاد نقدي مع هذه التقاليد القانونية المتنوعة والنظام السياسي والظروف الاقتصادية أكثر من هذه العقيدة. ومن الصعب أيضا أن نرى ألمانيا تستسلم حتى في هذا الشأن. ونتيجة لذلك التكاليف الاقتصادية لحل الأزمة ستكون كبيرة للغاية بشكل مفرط.