IMLebanon

النظام المصرفي العالمي الجديد يحرم الفقراء خدماته

BanksPoor

مارتن أرنولد وسام فليمنج

في كل أسبوع يتم إرسال ما يقارب مليار دولار من الولايات المتحدة من قبل أناس يساعدون على دعم أسرهم في بلدان أخرى – معظم هذه الأسر موجودة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا. وفي كل أسبوع تلتقط شاحنات مدرعة الملايين من الدولارات من هذه “الحوالات” النقدية وتسير بها مئات الأميال لإيداع الأموال في أقرب فروع للمصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

وعندما تصل الشاحنات إلى فروع الاحتياطي الفيدرالي، يتم تحويل الأموال برقيا إلى مصرف صغير على الساحل الغربي يسمى مصرف تجار كاليفورنيا، وهو آخر مصرف أمريكي لا يزال يتعامل مع كثير من الشركات الصغيرة التي تتعامل مع الحوالات المالية.

عدن حسن، وهو مسؤول تنفيذي في شركة كاه Kaah إكسبرس ومقرها ولاية مينيسوتا، يقول إن شركات الحوالات المالية المشابهة لشركته تضطر إلى القيام بهذه العملية المكلفة التي تستغرق وقتا طويلا، لأنها تم استبعادها تماما تقريبا من النظام المصرفي. ويضيف: “منذ عام 2004 و2005، قامت المصارف الرئيسية الأمريكية بالبدء في عملية تخفيض عدد شركات خدمات المال، حتى أنها أصبحت تعتمد على المصارف الأصغر التي تقتصر أعمالها على ولايتها، حتى بدأوا أيضا بإغلاق الحسابات ولم يترك منها سوى مصرف تجار كاليفورنيا فقط “.

وفي حين شنت الأجهزة المنظمة حملة على غسل الأموال وتمويل الإرهاب، قطعت المصارف علاقاتها مع كثير من العملاء في الدول النامية، في محاولة للحد من خطر التعرض لفرض غرامات ضخمة. المصارف وغيرها من النقاد يقولون إن هذا ينطوي على تكلفة إنسانية غير مقصودة، من خلال إضافة الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية إلى “الشركات التي أوقفت المصارف التعامل معها”.

واحتلت المسألة أعلى جدول الأعمال بعد أن سلط عدد من القضايا البارزة الضوء على تأثير ازدياد العزوف عن المخاطر من قبل المصارف، ولا سيما المتعلقة بتدفق الحوالات إلى البلدان الفقيرة، مثل الصومال.

ويأتي النقاش بعد عام مؤلم آخر للمصارف العالمية تميز بغرامات كبيرة – آخرها غرامة قيمتها 4.3 مليار دولار من قبل الأجهزة المنظمة الأسبوع الماضي ضد ستة مصارف لدورها في التلاعب بأسعار صرف العملات الأجنبية. وقد أضعفت الفضائح حجج المصارف التي ترى أن عملية وضع القوانين والضوابط التي أعقبت الأزمة أضرت بقطاعات حيوية في الاقتصاد، مثل القروض العقارية في الولايات المتحدة.

لكن المصارف، وبعض الحكومات، تتهم الأجهزة المنظمة – خصوصا في الولايات المتحدة – بأنها تبالغ في حماسها للإمساك بالمصارف. في وقت سابق من هذا العام دفع بي إن بي باريبا غرامة تبلغ 8.9 مليار دولار لخرقه عقوبات مفروضة على السودان وإيران وكوبا على مدى سنوات عديدة، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى أن يرفع شكوى إلى نظيره الأمريكي باراك أوباما بشأن طريقة تمت بها معاملة أكبر مصرف في بلاده. كذلك دفع كل من إتش إس بي سي وستاندرد تشارترد غرامتين كبيرتين في إطار تسويات مع السلطات الأمريكية بشأن ادعاءات غسل أموال.

عزوف عن المخاطر

وحذّر دوغلاس فلينت، رئيس مجلس إدارة إتش إس بي سي، في وقت سابق هذا العام من أن هناك “خطرا ملحوظا ومتزايدا وغير متناسب من العزوف عن المخاطر الذي يزحف إلى عملية صنع القرار” في أكبر مصرف في أوروبا من حيث الأصول. قبل عامين، بدأ إتش إس بي سي الانسحاب من عدة بلدان ومن عدة أنشطة يعتبرها مخاطرة كبيرة جدا بعد دفعه 1.9 مليار دولار غرامات إلى السلطات الأمريكية، واعتراف بأنه أجرى معاملات لعائدات الاتجار بالمخدرات عبر المكسيك، ونقل أموالا من البلدان الخاضعة للعقوبات مثل إيران.

تكلفة المطالب التنظيمية التي تفرض على المصارف الكبيرة عرضت بصورة مكشوفة من قبل جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لمصرف جيه بي مورجان تشيس، الذي قال في رسالته إلى المساهمين هذا العام إن المصرف أنفق ملياري دولار ووظف 13 ألف موظف لتعزيز تعامله مع القضايا التنظيمية والامتثال بعد أن دفع أكثر من 20 مليار دولار غرامات قانونية في العام الماضي.

وقطع جيه بي مورجان روابطه مع أعداد كبيرة من العملاء الذين ينظر إليهم المصرف على أنهم من ذوي المخاطر العالية، بما في ذلك العشرات من مصارف المراسلة في البلدان النامية. وتسبب هذا في بعض اللحظات المحرجة: تم التخلي عن وزير الخارجية السابق في كولومبيا، خوسيه أنطونيو أوكامبو، كعميل، حين قرر المصرف إغلاق حسابات الدبلوماسيين غير الأمريكيين الحاليين والسابقين، وحتى أن ممثلات مثل تيجان بريسلى وفيرونيكا أفلوف بدأن حملة التغريد مع هاشتاق “قاطعوا مصرف تشيس” احتجاجا على المعاملة التي يلقونها.

ونظرا لارتفاع تكاليف الامتثال للقوانين التنظيمية الجديدة وخطر فرض غرامات كبيرة إذا ما جرى أي شيء على نحو خاطئ، يجادل المصرفيون بأن ميزان الأرباح والمخاطر مائل ضد تقديم الخدمات للعملاء الأقل ربحا. والمصارف تحجم عن التعامل مع مدفوعات منظمات مثل شركات الحوالات المالية الإفريقية، أو المؤسسات الخيرية الإسلامية، مثلا، بسبب الخطر من إمكانية وصول المال إلى الأيدي الخطأ، مثل الجماعات الإرهابية كحركة الشباب في الصومال أو الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق “داعش”.

ويقول أحد الرؤساء التنفيذيين في أحد المصارف الأوروبية: “من وجهة نظري، هناك بدلة إعدام برتقالية اللون موجودة في الولايات المتحدة يقول الجهاز التنظيمي إنها هناك في انتظاري”.

وأثارت ظاهرة “إزالة المخاطرة” مخاوف صنع السياسات التنظيمية على أعلى مستوى. وقال مارك كارني، محافظ مصرف إنجلترا، في بازل يوم الإثنين الماضي إن الموضوع كان من المقرر أن يُناقَش على مستوى مجموعة العشرين في الوقت الذي حذر فيه من احتمال “عدم التعامل المصرفي مع أجزاء من العالم أو التعامل معها بنشاط أقل” ودعا إلى تنسيق أفضل بين الجهات التنظيمية.

وقال السير شيرارد كوبر كولز، كبير مستشاري إتش إس بي سي، في مؤتمر عقد أخيرا، إن المصارف كانت تنخرط في “تذلل وقائي أمام الأجهزة المنظمة” التي قد تترك أجزاء من العالم معزولة عن النظام المصرفي العالمي. وأضاف: “بينما يمكن أن تكون هناك فائدة تعود للصالح العام في هذه الانسحابات، يمكن أيضا أن تكون هناك تكلفة”.

تأثيرات تجارية

ويبين استطلاع شمل 17 مصرفا للمقاصة أن الآلاف من علاقات المراسلة المصرفية تم إغلاقها منذ 2011. وكان متوسط الانخفاض في عدد العلاقات 7.5 في المائة، مع قيام اثنين من المصارف بقطع 20 في المائة من علاقاتهم، وفقا للنتائج التي قدمت في اجتماعات مجموعة العمل المالي في تشرين الأول (أكتوبر).

وتشير أبحاث من غرفة التجارة الدولية إلى وجود تأثير كبير في التمويل التجاري. واستنادا إلى ردود من 298 مصرفا في 127 بلدا، وجد البحث أن مكافحة غسل الأموال ومتطلبات “الدراية بعميلك” أدت إلى انخفاض المعاملات بنسبة 68 في المائة في المصارف التي شملتها الدراسة عام 2013. وكانت إفريقيا الأكثر تضررا، والشركات متوسطة الحجم والصغيرة هي القطاعات الأكثر تأثرا.

وبعض المشاكل الأبرز كانت في مجال الحوالات المالية، حيث تعاني دول مثل الصومال من عدم رغبة المصارف في تعريض أنفسها لخطر الحركات غير المشروعة من التمويل.

ومدفوعات الحوالات تعتبر حاسمة في البلدان الأكثر فقرا – فهي تشكل نسبة قد تصل إلى ثلث ناتجها المحلي الإجمالي – وهي في سبيلها للوصول إلى 436 مليار دولار هذا العام، وفقا للبنك الدولي.

وحذرت شبكة مكافحة الجرائم المالية في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي من أن المصارف كانت “تنهي دون تمييز” حسابات الجهات التي تقوم بتحويل الأموال. وتشير تقديرات جمعية مرسلي المال في المملكة المتحدة إلى أن نحو 85 في المائة من مؤسسات الدفع المرخصة التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها والتي ركزت على تحويل الأموال عبر الحدود، إما أنها ليس لديها صلاحية الوصول، وإما لديها محدودية في الوصول إلى أي حساب مصرفي. ويقول دومينيك ثورن كروفت، رئيس UKMTA: “انها مشكلة حقيقية، ونحن لا نحرز أي تقدم على هذا المستوى”.

القضية الشهيرة في صناعة الحوالات في المملكة المتحدة هي قضية دهبشيل، الشركة الرائدة في نقل الأموال إلى إفريقيا، والتي قادت تحديا قانونيا ناجحا ضد قرار مصرف باركليز بإغلاق حسابها في العام الماضي. وكان مصرف باركليز آخر مصرف كبير في المملكة المتحدة يتعامل مع كثير من شركات تحويل الأموال وواجه حملة ليتراجع عن قراره بقيادة الرياضي البريطاني الصومالي المولد، مو فرح. لكن دهبشيل وافقت على تسوية خارج المحكمة مع المصرف الذي قدم لها ترتيبات مصرفية بديلة.

سكوت بول، كبير مستشاري السياسة الإنسانية في منظمة أوكسفام أمريكا، يقول إن مشاكل مماثلة لتلك الموجودة في الصومال من المرجح أن تنشأ في بلدان نامية أخرى. وقال إنه بالنسبة للمصارف “هي حالة مخاطرة لا يستهان بها ومكافأة لا تذكر”.

الجمعيات الخيرية

كذلك تتعرض الجمعيات الخيرية أيضا للأذى. يقول عبد الرحمن الشريف، من منتدى الجمعيات الخيرية الإسلامية في المملكة المتحدة، إن أعضاءه في حالة تأهب بعد أن تم إغلاق حسابات كثير منهم من قبل إتش إس بي سي وغيره من المصارف. ويضيف: “الناس لا يريدون التحدث علنا عن ذلك، لأن الوكلاء الذين تستخدمهم المصارف سيرون أنه قد تم إغلاق حساباتهم وسيركزون على أن ذلك محفوف بالمخاطر”.

ويحذر الشريف من أنه إذا تم النظر إلى المؤسسات الخيرية الإسلامية كما لو جرى استبعادها من النظام المصرفي، فإن هذا سوف يدفع حركة المال بشكل سري، ضاربا المثل بالأشخاص الذين يحملون النقد إلى سورية وقطاع غزة. وقال: “لقد انتقلنا من مرحلة تقديم اقتراحات إلى الحاجة إلى حلول بهذا الخصوص، وإلا فإن الوضع سيصبح عجيبا”.

ويؤكد المسؤولون التنظيميون على ضرورة توخي الحذر في تفسير الضوضاء من القطاع المصرفي. وفي حين يوجد سيل من الأدلة القولية على قطع المصارف لعلاقاتها، إلا أنه ليس من الواضح كم منها فعل ذلك لأن الشركات تعاني انخفاض الأرباح وتسعى لقطع خطوط الأعمال الأقل ربحا. ويقول روجر ويلكنز، رئيس فرقة عمل الإجراءات المالية، إن إزالة المخاطرة هي “ورقة التوت” بالنسبة للمصارف التي تسعى للتخلي عن العملاء غير المربحين.

جان بزم، الذي يدير وحدة نزاهة السوق المالية التابعة للبنك الدولي، يقول: “نحن قلقون من أنه قد يكون هناك نوع من رد الفعل المبالغ فيه وتجنب المخاطر، بدلا من إدارة المخاطر”.

وخسائر بعض المصارف قد تكون مكاسب لشركات أخرى. هانك أوبرُوي، الرئيس التنفيذي لشركة المدفوعات إيرثبورت، يقول إن أنموذج العمل المصرفي التقليدي المراسل “معقد ومكلف بشكل لا يصدق”، وكذلك عرضة للخطأ عندما يتعلق الأمر بنقل مبالغ صغيرة من المال عبر الحدود. وتقدم شركته للمصارف الكبرى خدمة نقل كميات كبيرة من المدفوعات بين 63 بلدا، ما يؤدي إلى الاستغناء عن الحاجة إلى سلاسل من المصارف المراسلة.

الشركة الأخرى التي تتجاوز المصارف هي ترانسفير وايز، وهي شركة بريطانية ناشئة منخفضة التكلفة لتحويل الأموال تأسست من قبل اثنين من الإستونيين في عام 2011. إنها تجمع بين أشخاص يسعون لإرسال الأموال بعملات مختلفة – محتفظين بالتعامل خارج نظام المقاصة الرسمي.

قنوات بديلة

في أحد الأيام قد يجد هؤلاء المبتكرون طرقا لملء جميع الثغرات التي تركتها المصارف النافرة من المخاطرة. لكن حتى ذلك الحين، تقوم الحكومات بالبحث عن سبل للمساعدة. وتعمل وزارة المالية البريطانية مع البنك الدولي لإنشاء “ممر آمن” لتسهيل تدفق الحوالات المالية إلى الصومال عن طريق إنشاء عمليات تدقيق قوية لتتبع الأموال. السير براين بوميروي، رئيس مجموعة العمل في المملكة المتحدة الخاصة بالحوالات المالية عبر الحدود، يقول إن من المتوقع إطلاق ممر آمن إلى الصومال مطلع العام المقبل، ويمكن مده إلى بلدان أخرى في حال نجاحه. في هذه الأثناء، تواصل المصارف خفض النفقات. وتسبب مصرف ويستباك في أستراليا في عاصفة لدى الجاليات الصومالية في البلاد بعد أن قال إنه قد يتوقف هذا الشهر عن كونه المقرض الأخير الذي يتعامل مع الحوالات إلى الدولة الواقعة في شرق إفريقيا.

في ولاية مينيسوتا، يقول حسن إن شركات الحوالات الأمريكية هي أيضا متوترة للغاية بعد أن هدد مصرف تجار كاليفورنيا بإغلاق حساباتها. ويضيف: “يتعين علينا الآن تقليص نطاق العمليات في دول بأكملها بسبب عدم وجود خيارات مصرفية”، مشيرا إلى أن الأجهزة المنظمة تضغط على عدد قليل من المصارف لا تزال تتعامل مع “كاه إكسبرس” عن طريق زيادة مساهمتها في صندوق التأمين على الودائع الاتحادية والقيام بعمليات تفتيش أكثر تواترا. “كل يوم تصبح هذه الإجراءات أكثر صرامة”.