الحدث الأول كان بداية المعركة ضد الارهاب والتي نظمتها واشنطن وسعت من خلالها للوصول الى معلومات عن حسابات ومعاملات العملاء في المصارف وجاء نتيجتها «قانون باتريوت» والذي سمح لوكالات الاستخبارات الأميركية بالوصول الى معلومات مصرفية في الولايات المتحدة دون اذن خاص من النيابة العامة والمحاكم – ولم تكتف واشنطن بذلك اذ انها سعت، ومن خلال المنظمات الدولية مثل منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD وصندوق النقد الدولي IMF، للوصول الى معلومات مصرفية في العالم أجمع.
جاء الحدث الثاني مع الأزمة الحالية والذي أعطى دفعة جديدة للحملة على الحسابات المصرفية والحسابات الخارجية وضد السرّية المصرفية . وقد تكون هناك وراء الحدثين اهداف غير معلنة، انما اتضح مؤخراً ان الهدف من وراء هذه القوانين هو انشاء رقابة مباشرة على النظام المالي والمصرفي العالمي بقيادة واشنطن. وهكذا نشطت عملية مراقبة الحسابات المصرفية للأميركيين خارج الولايات المتحدة الأميركية.
وقد رضخت معظم المصارف للضغوط الأميركية سيما UBS وغيرها من المصارف، والتي اعطت اسماء أكثر من 250 شخصاً تهربوا من دفع الضرائب وغرّم المصرف بدفع 780 مليون دولار كتعويض عن هذه الضرائب.
وخلال السنوات الخمس الماضية، ومنذ نهاية الأزمة المالية العالمية، تلقت «السرية المصرفية» ضربات موجعة ليس فقط في سويسرا بل ايضاً في جميع انحاء أوروبا، والتحوّل الكبير حصل العام الماضي عندما توصل الاتحاد الأوروبي الى اتفاق من حيث المبدأ لمكافحة التهرب من دفع الضرائب على ان يتمّ تبادل المعلومات المصرفية اللازمة لضمان دفع الضرائب من قبل الافراد والشركات داخل بلدانهم.
ولم تمتثل دول اللوكسمبورغ والنمسا لهذا القرار بل أعلنت تأييدها المبدئي لإلغاء السرية المصرفية في الاتحاد الأوروبي دون اتخاذ اي التزامات محددة مشترطة انضمام دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي مثل سويسرا وليختنشتاين لكي لا تبقى لأية دولة ميزة تنافسية مع الدول الاعضاء، واعتبروها ميزة غير عادلة سيّما وان اقتصاداتهم تعتمد بشكل كبير على القطاع المصرفي اكثر من دول الاتحاد الأخرى.
وتم التوصل هذا العام الى توافق في الاداء حول الغاء السرية المصرفية حتى اصبحت دول الاتحاد الـ 28 تلتزم بشكل رسمي بهذه القوانين، بضغوط مباشرة من بروكسل وغير مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية.
وبدأت بعدها بروكسل تتطلع الى الدول الأخرى مثل سويسرا وليختنشتاين وموناكو واندورا وسان مارينو وأخذت تحثّهم على الامتثال الى هذه الاتفاقيات. ومع الغاء السرية المصرفية في اوروبا والـFATCA من قبل الولايات المتحدة كان لا بدّ من تدفق هذه الاموال باتجاه دول أخرى مثل سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ.
ولم تكتف بروكسل واميركا بذلك بل سعت جاهدة من خلال المنظمة الاقتصادية للتنمية والتعاون OECD ودول العشرين (G20) للبدء بإصلاحات مالية شاملة واعتماد برنامج دولي لتبادل المعلومات الضريبية. هكذا تكون هذه التشريعات الأوروبية قد أصبحت موازية لمعايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والتي تهدف الى الحد والتهرب من الضرائب والاحتيال.
وهذا القانون الجديد يعد بشفافية كاملة للتحصيل الضريبي في اوروبا، لذلك يمكن القول ان هذه القوانين والتي اصبحت نافذة بالاجمال، وتشمل أميركا واوروبا معاً قد قضت على السرية المصرفية في هذه الدول وسمحت لهم بمتابعة مواطنيهم وحساباتهم في محاولة للتخلّص من مشكلة التهرّب الضريبي.
ويمثل هذا الوضع تحولاً كبيراً في الثقافة المصرفية الدولية بالاجمال وبين الدول التي كان لها ولعقود من الزمن ميزة تنافسية من خلال السرية المصرفية، وقد لا تساعدها حتماً في ان تظل قادرة على المنافسة بوصفها مركزاً مالياً هاماً، ولكون المصارف تشكّل قسماً لا بأس به من حركة الناتج، والتي هي مفتاح جاذبيتها كمركز مالي. كذلك يُطرح السؤال، ما هو مستقبل هذه المصارف ومن هو المستفيد من انهيار هذه السرية المصرفية؟
لا يمكن أنكار قوة سويسرا المصرفية بما لديها من خبرات طويلة في ادارة الثروات واستقرار سياسي وعملة مستقلة وعدد كبير من خبراء المصارف والمحاسبين وغيرهم. أضف الى ذلك أن المصارف لوحدها تشكل حوالي 6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، ولكن سويسرا ليست هذا فقط ولا هي بلد الشوكولا والساعات انما بلد الصناعات الحديثة (pharma) والتكنولوجيا والسياحة.
لذلك قد لا يكون مفاجئاً ان تقول متحدثة باسم الحكومة السويسرية انه ليس هنالك ما يدل على ان كمية كبيرة من المال قد تم نقلها من سويسرا الى اماكن اخرى مما يعني انها مغرية.
ولا شك ان المال يتحرك دائما من المناطق الاكثر تنظيماً نحو المناطق الأقل تنظيماً- لذلك قد تكون موناكو والشرق الأوسط وسنغافورة من أول المستفيدين من هذه الأنظمة الجديدة ومن انهيار السريّة المصرفية في أميركا منذ أحداث 11 أيلول وفي أوروبا حديثا.
ويعتبر الكثير من الاقتصاديين والمحللين الماليين ان السرية المصرفية قد ماتت وان الأنظمة الأميركية والاوروبية حول التهرب الضريبي سوف تطال الأشخاص والمصارف في جميع أنحاء العالم. وما على هذه الدول سوى الالتزام بتطبيق هذه المعايير والا قد تواجه عقوبات صارمة كالتي واجهها واحد من أقدم المصارف السويسرية Wegelin والتي كانت عقوبتها الاقفال بشكل قطعي ودائم، او في أحسن الأحوال عقوبات مالية كالتي واجهها Credit Suisse والـ UBS وقد تكون مقولة « Too big to jail» أي أكبر من أن يسجن اصبحت في خبر كان لا سيما بعد العقوبات القوية التي واجهها مؤخرا Credit Suisse . وللعلم لبنان يدخل ضمن هذه المنظومة العالمية وما عليه سوى الامتثال اليوم لـ»»FATCA وغدا لقوانين تفرضها اوروبا على رعاياها.
كما يعني ان حاملي الجوازات الاوروبية والاميركية مجبرون على الامتثال والتصريح عن اموالهم في المصارف اللبنانية. وللعلم بدأت المصارف اللبنانية نوعاً من التحرك في هذا الاتجاه الا انه ولغايته لم تطبق الـ FATCA بالكامل، وبالشكل المطلوب.
ما يعني لبنان في هذا الملف، انه وفي وقت قريب لن تعود السرية المصرفية واحدة من ميزات القطاع المصرفي اللبناني وسوف تطبق القوانين بشكل جدي مما يعني المزيد من القوانين والاصلاحات في القطاع المصرفي ريثما تتبلور الامور عالمياً.
لذلك قد تكون المصارف العالمية الكبيرة بدأت تتأقلم مع الواقع والتكيف مع حيثيات الامور ولكن المصارف الصغيرة ما زالت ترفض هذا التغيير الكامل.
واذا كانت سويسرا تستطيع المحافظة على ميزتها التنافسية مع المصارف من خلال وضعية اقتصادها المتنوع وعملتها القوية واستقرارها المثالي، فان الوضع في لبنان مختلف، حيث لا يوجد اقتصاد متنوع ولا الاستقرار يحتذى به، ولا العملة قوية مما يعني ان لبنان وفي المدى المتوسط سوف يكون عرضة لضغوط دولية على مصارفه لا بد معها من ان يفقد ميزته التنافسية.