إيفا الشوفي
هي إحدى المرات القليلة التي يرى فيها اللبنانيون أصحاب رؤوس الأموال منزعجين من الدولة. وجوههم كانت عابسة في اللقاء المغلق مع وزراء «سلامة الغذاء»، قبيل الاجتماع الاقتصادي الموسّع الذي خصص لبحث ملف سلامة الغذاء. حاولوا أن يبتسموا أمام الإعلام، وأن يظهروا كأنهم راضون ومتوافقون مع الوزراء، لكنهم فشلوا، فالتعليقات والردود التي انسابت بين الكلمات في المؤتمر فضحتهم. الدولة في هذا الملف قوية، تفرض شروطها، إمّا أن تستجيبوا، أو أن تتحملوا مسؤولية عنادكم.
هكذا أعاد كل من وزراء الصحة، الزراعة والبيئة فرض هيبة الدولة على مؤسسات كانت تعتقد أنها أقوى، فيما بقي وزيرا السياحة والاقتصاد، على نحو غير مباشر وبالرغم من كلامهما المؤيد لأبو فاعور، في موقع المدافع عن هذه المؤسسات في وجه الدولة، أمّا وزير الصناعة، فاتخذ موقعاً وسطياً بين القطاعين العام والخاص.
لم يكن هناك من خيار آخر لدى المؤسسات الاقتصادية سوى الانصياع لقرارات الدولة، «انكسرت شوكتهم»، يقول مصدر متابع لمجريات النقاش الذي حصل قبيل الاجتماع. وما تهافت هذه المؤسسات إلى المختبرات لاعادة فحص عينات من سلعها سوى دليل على الخوف الذي تمر به في هذه الفترة. حصيلة الاجتماع كانت إعلان ورقة عمل مشتركة تضمنت خطوات مشتركة لمتابعة حملة سلامة الغذاء منها: انشاء «مركز التدريب لسلامة الغذاء»، وضع ميثاق السلوك المهني في سلامة الغذاء، توفير برنامج تمويل طويل الامد وبفوائد مخفضة لتسهيل الاستثمار في مستلزمات سلامة الغذاء، اعتماد مشروع «المبادئ التوجيهية لسلامة الغذاء في لبنان» وغيرها من المقررات التي لم تأتِ على ذكر المؤسسات المخالفة. لم يعجب الأمر أبو فاعور الذي اعترض على البيان مهدداً الهيئات الاقتصادية بأنه إمّا أن تضيف بنداً تدعو فيه المؤسسات المخالفة للمواصفات إلى تصحيح أوضاعها والتزام المعايير المطلوبة التي ثبت بنتائج فحوص الوزارة مخالفتها، أو سينسحب من هذا النقاش. خضعت الهيئات الاقتصادية مجبرة لمطلب أبو فاعور، ما يعني اعترافاً واضحاً بصدقية الفحوص التي تجريها الوزارة، والتراجع عن التشكيكات التي أطلقتها الهيئات أخيراً. أمّا وزير الزراعة أكرم شهيب، فقد أدخل بعض التعديلات المتعلقة بدور وزارته، فيما طلب وزير الصناعة حسين الحاج حسن إبقاء مراجعات كل قطاع مع وزارته. وافق أبو فاعور على اقتراح الحاج حسن، لكنه أكّد أن لوزارة الصحة الحق وفق القانون بإجراء الفحوص والكشوف حينما ترى ذلك ضروريا، وعندما ترى أن هناك ما يهدد الصحة العامة.
لا يعجب الهيئات الاقتصادية «التشهير» الذي يمارسه ابو فاعور، إذ ساهم في خفض أرباحها الطائلة، فرئيس غرفة التجارة والصناعة محمد شقير رأى أننا «بحاجة إلى حملة علاقات عامة حول العالم من اجل تلميع سمعة المؤسسات الغذائية اللبنانية». رئيس اتحاد النقابات السياحية بيار اشقر اعترض “على الوسيلة التي اتبعت لأنها غير ملائمة ولا تحقق هدفها بالوصول الى سلامة الغذاء”. أمّا رئيس الهيئات الاقتصادية عدنان القصار، ممثَلاً بنائب رئيس غرفة بيروت وجبل لبنان نبيل فهد، فرأى أن معالجة هذا الموضوع يجب ان تجري على نحو واقعي وعقلاني، بحيث لا يؤثر ذلك في سمعة لبنان في الخارج، سواء على المستوى السياحي أو الاقتصادي. حتّى وزير السياحة ميشال فرعون أعلن أنه موافق على المضمون لكن ليس على الطريقة، وأيده بذلك وزير الاقتصاد ألان حكيم. ردّ أبو فاعور جاء واضحاً وحاسماً ومحصّناً قانونياً: أنا متمسّك بالعلانية ولينزعج من يشاء، والمادة 45 من قانون حماية المستهلك تلزمني إعلان المخالفات. خضعوا جميعهم مجدداً. نوّه أبو فاعور بالخطوات التي حدّدتها ورقة العمل، وبإيجابية الحوار الاقتصادي بين الدولة والقطاع الخاص، لكنه لم يطمئنهم: «لا أقبل منطق التناقض الوهمي بين سلامة الغذاء والاقتصاد والسياحة. غادروا منطق الانكار، لا المؤتمرات الصحافية تنفعكم ولا التهجم والطعن بالنتائج يفيد، واستمراركم في محاولات تضليل الرأي العام عبر بعض وسائل الإعلام سيدفعني لأن أتكلّم عن جميع الأساليب التي تتبعونها»، قالها أبو فاعور في عقر دار هذه الهيئات.
تتمسّك الهيئات الاقتصادية بأي حجة يمكن أن توفّر لها مخرجاً أو تنصلاً من مسؤولياتها، والحجة الأكثر استخداما اليوم هي المياه. يتحدّث هؤلاء عن أن المياه التي تصل إليهم ملوثة، ما أدّى إلى هذه «الزوبعة» التي نشهدها حالياً. مسؤولية الدولة موجودة بالفعل، لكن هل هذا يشرّع لهم استخدام مياه ملوثة؟ بالطبع لا. يقترح أبو فاعور أن تدفع هذه المؤسسات قليلا من أرباحها لتكرير المياه «يستثمرون بآلاف الدولارت لكنهم يعجزون عن تركيب فلتر للمياه!». أمّا المدير العام لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ميشال افرام فيدحض هذه الحجة علمياً، بأن «مشكلة المياه الملوثة تنتج عنها بكتيريا ايشيريشا كولاي، لكن غالبية المؤسسات وجدنا فيها بكتيريا أخرى كالسالمونيلا وليستيريا، وهذه لا علاقة لها بالمياه». حجة أخرى طرحتها الهيئات الاقتصادية: ماذا عن المصدر؟ اعترف أبو فاعور بأن هناك مشكلة في المصادر، وأُغلق عدد كبير من المسالخ والمزارع، لكن هذا لا ينفي مسؤولية المؤسسات. فبناءً على نتيجة الفحوص يعلن افرام أن «جزءا كبيرا من اللحمة التي كشفنا عليها سليم، لكن المشكلة في عملية التصنيع»، هذا يعني أن المعدات غير نظيفة، أو طريقة الحفظ، أو التبريد… يشرح افرام لـ «الأخبار» أنهم لاحظوا أن اللحوم الفاسدة هي لحم مفروم، همبرغر، سجق… جميعها مصنّعة. مثلاً عندما يفرم اللحام بالآلة يبقى لحم داخلها. يأتي زبون آخر فيستخدم الآلة وفي داخلها بقايا لحم فاسد، لأنها بقيت ساعات من دون تبريد. وأخيراً الحجة «المعجزة» لرئيس غرفة التجارة والصناعة محمد شقير: غير مطابق للمواصفات لا يعني «فاسد»! لا تمت هذه المقولة إلى العلم بصلة، فقد أوضح افرام أن عبارة «غير مطابق للمواصفات الصحية تعني أن الطعام فاسد وغير صالح للاستهلاك».
الصراع بين الدولة والقطاع الخاص يفتح أبواب المساءلة بين الاثنين، فكما على القطاع الخاص تحمّل المسؤولية، على الدولة أيضاً أن تقوم بواجباتها. يفتح شقير ملفات عديدة: «في موضوع المرفأ، ما هي الخطة التي ستوضع من قبلكم لايقاف البضائع الفاسدة من مأكولات وادوية؟ المطاعم السورية اصبحت بالمئات ومن دون رخص. هناك أكثر من 300 مصنع مياه غير مرخصة، اذا أقفلن فما البديل؟ يوجد اكثر من 800 مصنع غذاء في لبنان بدون رخصة، دون رقابة، دون تحاليل، ما مصيرها؟». كذلك طرح شهيب مشكلة بالغة الخطورة، هي أن بعض المواد الزراعية التي تصدر إلى الخليج تُعاد لعدم تطابقها مع المواصفات فيجري تسويقها في السوق المحلي. هذه الفضيحة كشفها أيضاً افرام، ما يستدعي تحركاً جدياً من الحكومة لوقف هذا الاستهتار بصحة المواطن اللبناني، وخصوصاً أن شهيب أعلن أن «تشريع قانون لسلامة الغذاء في الظروف الحالية ليس سهلاً، لذلك يجب إنشاء مؤسسة لسلامة الغذاء حتى إقرار القانون».
يمكن أن تصل «وقاحة» المستفيدين من الفساد الغذائي إلى حد تفضيل الأرباح والأموال التي تجنيها المؤسسات على صحة المواطن. فقد أعلن وزير الاقتصاد ألان حكيم (الصورة) أنه «اذا استمر الموضوع على هذا المنوال، فستكون له نتائج سلبية، نحن في فترة أعياد وهي تمثل بين 20 في المئة و30 في المئة من مدخول المؤسسات». ورأى أن «نسبة الوفيات بسبب التسمم في لبنان هي اقل من اميركا والدانمارك وروسيا، وتحتل مراكز منخفضة في التراتبية»، مضيفا «أن نسبة الوفيات على نحو عام اقل من فرنسا واليابان وانكلترا». إلا أنه على الهيئات الاقتصادية أن تخاف أكثر، إذ أعلن وزير البيئة محمد المشنوق أنه سيطلق حملة بيئية للحد من التلوث الكبير الذي يصدر عنها بطريقة تخلصها من النفايات او الصرف الصحي او تلوث الهواء…وستطاول الحملة جميع المصانع والمسالخ والمستشفيات.