حيدر الحسيني
صورة مُفرحة واُخرى مُحزنة ترتسمان في ذهن العربيّ المُتابع لمسار «منظمة الدول المصدرة للنفط» (أوبك)، وتنطويان على تناقض كبير بين ماضٍ اتّسم بروح الانسجام والتقاء المصالح عند تأسيسها، وحاضر موصوم بالنزاع والشرذمة والتناحر.
في الصورة الأولى: بغداد، 14 أيلول 1960. المملكة العربية السعودية تبادر مع 4 منتجين أساسيين، هم إيران والكويت والعراق وفنزويلا، لتأسيس منظمة «اوبك»، في مواجهة الشركات الغربية التي لم تكن تدّخر جهداً للهيمنة على السوق العالمية، إنتاجاً وتسعيراً.
وفي الصورة الثانية، بعد 54 سنة على التأسيس: فيينا، 27 تشرين الثاني 2014. الشركات الكبرى لا تزال طاغية على مواقع الإنتاج في غالبية الدول التي تحتضن الثروة في رحِم أراضيها، فيما تبدو «أوبك» رغم ازدياد أعضائها إلى 12 – عاجزةً عن تخطّي خلافاتها السياسية، عبر اتخاذ موقف موحّد يضمن المصالح الاقتصادية لأعضائها المعتمدة موازناتهم أساساً على إيرادات بيع البترول.
لعل ذروة النفوذ الدولي الذي استطاعت «أوبك» بلوغه تحقق في تشرين الأول 1973، باتفاق الرياض وطهران على استخدام النفط سلاحاً، إثر الحرب بين الجيوش العربية والكيان الصهيوني، حيث أجمعت المنظمة بمبادرة العاصمتين، متّحدتين، على خفض الإنتاج والتصدير وقطع الإمداد عن البلدان الداعمة لإسرائيل، وفي طليعتها الولايات المتحدة.
غياب القرارات «الكُبرى»
في المقابل، لعل «مترسة» الدولتين الأقوى نفوذاً بين أعضاء «أوبك»، كُلُّ في خندق بمواجهة الآخر مع حلفاء آخرين، هي العامل الأساسي الذي يضع نفوذ المنظمة على المحك، بعدما أصبحت – أصلاً تقوّضه جملة عوامل اُخرى، تبدأ من الاكتشافات النفطية والغازية الهائلة حول العالم، وتمُرّ بتزايد ظاهرة استفادة دول كثيرة من بدائل الطاقة الصخرية والمتجددة، ولا تنتهي عند الضغوط الكبيرة التي تمارسها – بأشكال مختلفة – الأمم المستهلكة، وفي مقدمتها 16 دولة صناعية أنشأت «الوكالة الدولية للطاقة» (IEA) ردّاً على تدابير «أوبك» سنة 1973، قبل أن تؤسس 75 دولةً عام 2009 «الوكالة الدولية للطاقة المتجددة» (IRENA).
في الإجمال، برصد نشاط المنظمة، يُمكن القول إنها كانت حتى منتصف سبعينات القرن العشرين، أكثر قدرةً على اتخاذ القرارات «الكُبرى» في أوقات الشدّة، لكن تبدُّل التحالفات السياسية وخلط الأوراق بين مراكز القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد تغيير النظام الإيراني، منتصف سنة 1979، وما تبع ذلك من تداعيات، كان لهما، بمرور الوقت، أثر كبير على إعادة التموضع داخل أروقة «أوبك».
هذا ما أنتج تبايناً حاداً في المواقف، تبعاً للتحالفات الموجودة الآن، ما يجعل المراقب ينحو باتجاه الاعتقاد بأن ما رشح عن كل الاتصالات التي تسبق اجتماع «أوبك» المقرر الخميس المقبل في مقرها بالعاصمة النمسوية، يشي بشرخ عميق يصعُب معه الجزم بما ستؤول إليه المداولات بين فريقين، أحدهما يُفضّل الإبقاء الإنتاج على ما هو عليه، وهو الموقف الذي تتبنّاه أساساً المملكة العربية السعودية، يؤيدها في ذلك شركاؤها الرئيسيين في دول مجلس التعاون الخليجي، مقابل ميل لخفض الإنتاج تفضّله إيران وحلفاؤها من داخل المنظمة وخارجها، بعدما خسر برميل الخام ثُلث قيمته تقريباً منذ حزيران المنصرم، أولاً بسبب فائض المعروض العالمي، وثانياً لما تعتبره طهران وموسكو ضغوطاً «مُصطنعة» على العاصمتين لأغراض سياسية.
تغليب المصلحة الاقتصادية؟
إن تأسيس «أوبك» قبل أكثر من 5 عقود، انطلق من المصلحة الاقتصادية للمنتجين الخمسة المؤسسين، وللأطراف الاُخرى الشريكة في عملية الإنتاج والاستهلاك. فهي منظمة اقتصادية بحتة في الأساس، تنبعث مهمتها من تنسيق وتوحيد السياسات النفطية للدول الأعضاء، وضمان استقرار الأسواق، من أجل تأمين إمدادات فاعلة و«اقتصادية» ومنتظمة للمستهلكين، ودخل «ثابت» للمنتجين، وعائد «عادل» على رأس المال للمستثمرين في هذا القطاع.
ومهما يكن القرار الذي سوف تتخذه المنظمة، سواء بتخفيض سقف إنتاجها عن المستوى الحالي البالغ 30 مليون برميل يومياً، أو بالإبقاء عليه، مثلما فعلت في اجتماع 11 حزيران الفائت، وهو اليوم الذي كان سعر البرميل يصعد فيه لأكثر من 110 دولارات، فإن مصلحة الدول المُنتجة تقتضي بطبيعة الحال ترجيح خيار يُعيد التوازن إلى الأسعار، بعدما هبط خام «برنت» القياسي الأوروبي 30 دولاراً تقريباً منذ ذلك الحين إلى نحو 80 دولاراً، أو ما نسبته 28 في المئة نزولاً، وهو سعر يُضر قطعاً بالمالية العامة لكل المنتجين، لا سيما تلك الحكومات التي حددت للبرميل سعراً أعلى من الحالي في موازناتها العامة، ناهيك عن أنه يشكل تحدياً استثمارياً بالنسبة لشركات التنقيب والاستخراج التي تنخفض هوامش أرباحها تأثراً بتراجع الأسعار.
وما يزيد الطين بِلّة أن الخلافات داخل «أوبك» لا تقتصر على مسألة الإنتاج وحدها، على أهميتها، بل تنسحب أيضاً على شؤون اُخرى من المتوقع أن يبحثها المجتمعون في فيينا الخميس، وأبرزها على الإطلاق تعيين أمين عام جديد للمنظمة، وهو منصب سوف يصبح شاغراً بحلول نهاية العام الجاري، بعدما شغله الليبي عبدالله البدري منذ كانون الثاني 2007، حيث اُعيد انتخابه عاماً في كانون الأول الماضي، نظراً لعدم إجماع السعودية والعراق وإيران على مرشح واحد.
وفي ظل غياب أي مؤشرات جدية على اتفاق سياسي قريب بين الأعضاء المختلفين، ولا على ارتفاع قوي لسعر البرميل بحلول موعد الاجتماع يوم الخميس القادم، ربما يجد الاتجاه لخفض الإنتاج حظوظاً أكبر إذا ما جرى تغليب المصالح الاقتصادية على حساب الصراعات السياسية، وهذا ما يتطلب بذل جهود جبارة في وقت قصير لاتخاذ قرارات على مستويات عليا في عواصم القرار الفاعلة داخل «أوبك»، تهدف، ما أمكن، إلى عزل الاقتصاد عن السياسة.