Site icon IMLebanon

هذه المديونية العامة…!

Ministère-des-Finances

مكرم صادر

بلغت مديونية الدولة اللبنانية كما في آخر شهر أيلول من العام 2014 بالضبط 66 مليار دولار أميركي، أي ما يقارب 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر. وتتوزّع هذه المديونية بين العملات الأجنبية بمعدّل 39 في المئة، أي ما قيمته 26 ملياراً، وبين الليرات اللبنانية بمعدَّل 61 في المئة أي ما قيمته 40 مليار دولار.
وتُبيِّن المعطيات التي تنشرها السلطات المالية والنقدية حول حاملي الدين العام أن المصارف اللبنانية تحمل في المجمل 57 في المئة من مديونية الدولة، أي ما يزيد عن 37.5 مليار دولار، 44 في المئة منها محرَّرة بالعملات الأجنبية. وما زال مصرف لبنان يحمل في محفظة سنداته 20 في المئة، أي ما يزيد عن 13 مليار دولار، وهي نسبة عالية مع تغيّر جذري في بنيتها سنعود إليه لاحقاً. أما المؤسسات العامة، أي الضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع، فتحتفظ بحصةٍ من مديونية الدولة نسبتها 7.5 في المئة وقدرها يدنو عن 5 مليارات دولار يعود معظمها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (فرع نهاية الخدمة)، وهي محرَّرة بالكامل بالليرة اللبنانية، مما يجعل حمايتها ضد التضخّم معدومة بل ويعرّضها للذوبان في ظلّ أية تطورات في أسواق القطع. واستكمالاً للجهات التي تحمل مديونية الدولة، فإن القطاع الخاص اللبناني يحتفظ بما يزيد عن 4 مليارات دولار، 54 في المئة منها بالعملات الأجنبية، وتشكّل نسبة 6.2 في المئة من مجموع الدين العام. ويعود المبلغ المتبقّي من المديونية، وقدره 6.3 مليارات دولار ونسبته 9.5 في المئة، إلى غير المقيمين. هذا الجزء محرّر بالكامل طبعاً بالعملات الأجنبية ويتوزّع مناصفةً تقريباً على المقرضين السياديّين (قروض طويلة الأجل لمجلس الإنماء والإعمار وقروض مؤتمرات باريس الشهيرة)، وعلى المقرضين الخاصين من صناديق استثمار و/أو أفراد مستثمرين. والقروض السيادية تذهب في حال نشأت مشكلة سداد، كما كاد أن يحدث مؤخراً مع الدنمارك، إلى نادي باريس بينما يتمّ التعامل مع الدين الخاص في حال التعثر عبر ما يُعرف بنادي لندن. وحسناً تراجعت وزارة المالية بحكمة عن «الكباش» مع الدنمارك، ذلك أن أزمة مالية عاتية لا تُعرَف عقباها كان يمكن أن تندلع. وقد رأينا في الأرجنتين، مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ومؤخراً في اليونان وقبرص أمثالاً على التطورات الممكنة. هذه أمور لا يجوز اللعب بها بل لا تحتمل أيّة شطارة!
قبل الانتقال إلى جوانب أخرى هامة من مسألة المديونية، تستدعي بُنية حاملي الدين العام توقفاً عند ثلاث ملاحظات. أولها أن أكثر من 90 في المئة هو في حيازة أطراف لبنانية وأقل من 10 في المئة في حيازة أطراف خارجية. ونكرّر مجدداً ضرورة عدم ارتكاب أي خطأ في التعامل مع هذه النسبة المتدنية من المديونية الخارجية، وجعلها تُعرِّض لبنان لمخاطر السمعة بل ولمخاطر الملاءَة. وينسحب ذلك على ملفٍ آخر ولو بحجمٍ لا يُقارَن مع المديونية الخارجية، عنينا به ملف المؤسسة العامة للإسكان. فالتزامات هذه المؤسسة مضمونة قانوناً من الدولة. فلا يجوز ترك هذه المؤسسة التي تلعب على صعيدٍ آخر دوراً هاماً في سوق السكن لذوي الدخل المحدود تتعرّض للتعثر من أجل «حفنةٍ» من الدولارات!… إن إيفاء الدولة بالتزاماتها، خارجية كانت أم داخلية، يبقى أمراً هاماً جداً خصوصاً أن المصارف ما زالت راضيةً بتوفير التمويل الذي تحتاجه الدولة لئلا تقع في المحظور.
تعود الملاحظة الثانية في ما يخصّ حاملي المديونية إلى محفظة مصرف لبنان حيث يتبيّن أن حجمها من اليوروبوندز قد تراجع خلال عام أو يزيد مما يقارب 6 مليارات دولار إلى دون المليار نتيجة الهندسات المالية التي أجراها في السوق، فوفَّرت له من جهة سيولةً بالعملات الأجنبية ساعدته على الاحتفاظ بمستوى مرتفع من احتياطي العملات الصعبة ومكّنته من جهةٍ ثانية من توفير تمويل نفقات الدولة بالعملات الأجنبية، حيث تطغى كلفة المحروقات لكهرباء لبنان؛ وساعدته من جهةٍ ثالثة على استيعاب الضغوطات التي طرأت (أو قد تطرأ) في أسواق القطع نتيجة الأداء الكارثي لمعظم الطبقة السياسية التي تعيش في وادٍ والأوضاع المالية والنقدية في وادٍ آخر. ونحذِّر من استمرار هذا الأداء السياسي ومن استمرار الاستنساب المطلق في ممارسة سلطة الدولة وانعكاسها على تمويل المديونية والاستقرار النقدي. وقديماً قيل: «رحِمَ اللهُ إمرءاً عرفَ حدَّهُ فوقف عندَهُ!»
تكمن الملاحظة الثالثة والأخيرة وهي الأهم في كون مديونية الدولة تتفاقم نتيجة الاستمرار في النفقات الأولية برغم تراجــع خدمة الدين كثيراً في السنوات الأربع الماضية. وتساهم هذه المديونيــــة بشكلٍ ضئيلٍ في النمو الاقتصادي في البلد أو في التقـــــدم التقني، لكنها لا تساهم في التقدم الاجتماعي، ذلك أن الأثر التوزيعي الاستهلاكي ضعيف بدوره نظراً للتمركز العالي للثروة في لبنان بما فيها الودائــــــع الادخارية. فمن أين يأتي النمو الاقتصادي والأيدي العاملة إلى تقلصٍ ملحوظٍ بفعـــــل نزف الهجرة؟ فالعمالة تبقى في أفضل الحالات من سنةٍ إلى أخرى عند مستوى مستقر. وليس من أملٍ في زيادة عامل التقـــــدم التكنولوجي مع تقهقر الصنـــاعة والزراعة ومشـــــاريع البنية التحــــتية، وهي القطاعاتـ المنتجة للسلع الأكــــثر قدرةً على استيعاب التقنيات الحديثة.
ويصعب بل يستحيل تفعيل التقدم التقني في بنية اقتصادية تهيمن عليها بنسبة 75 في المئة الخدمات ذات القيمة المضافة الضعيفة. أما إدخال عوامل الإدارة والتنظيم الحديثة إلى المؤسسات فيبقى ضعيفاً في معظم الأنشطة بل وغائباً بالنظر إلى واقع البنية الحالية لقطاع المؤسسات في لبنان. كلُّ ذلك يجعل الإنتاجية العامة للاقتصاد متدنّية ومستوى الأجور وتالياً مستوى الطلب الكلي ضعيفين أيضاً. والواقع أن مديونية الدولة المرتفعة قياساً إلى حجم الاقتصاد تعويضاً عن ضعف الطلب الخاص وخدمتها قياساً إلى إجمالي نفقات الخزينة العامة تحول دون تدخّل فعَّال للدولة في الاقتصاد في سياق ما يُعرف بالنموذج الكينزي. فالإنفاق العام بمعظمه تحويلات (Transfers) تؤخذ من فئة وتُعطى لأُخرى.
في الخلاصة، تستمر المصارف في تمويل الدولة لئلا تتوقف هذه الأخيرة عن الدفع وكي تستمرّ في أداء وظائفها. وتستمرّ المصارف في توفير احتياطي العملات الصعبة للبنك المركزي فيحافظ على الاستقرار النقدي، ولو بكلفة تبدو أحياناً مرتفعة، علماً أنها تبقى مقبولة قياساً إلى ما قد يترتّب على غياب الاستقرار النقدي كما أظهرت بقوة تداعيات الأزمة المالية العالمية بعامةٍ والتطورات في بعض الدول بخاصةٍ. وفي الواقع، لا تتعدّى هوامش المصارف من التمويل السيادي بكامله (للخزينة وللمصرف المركزي) 1.4 وهي متدنية جداً قياساً إلى المخاطر السيادية. وتستمر المصارف في توفير حجمٍ من التمويل للاقتصاد الخاص، مؤسساتٍ وأُسَراً، قارب الخمسين مليار دولار وبكلفة تقارب الـ 7 % حالياً، أي بمعدّلات فوائد حقيقية منخفضة، وكذلك بهوامش فوائد بحدود 1.5 في المئة فهي بدورها تُعتبر متدنية جداً قياساً إلى مخاطر البلد. ولكنَّ استمرارية التمويل هذه المثلثة الأضلاع ــــ للدولة والبنك المركزي والقطاع الخاص ـــ تحتاج إلى حدّ أدنى من المقوّمات. فلا يمكن أن تبقى قائمة مع هذا الأداء السياسي وهذا النمط من ممارسة سلطة الدولة حيث تطغى الاستنسابية والاستنزاف المنظّم لمقدراتها ولمقدرات البلد. ويصعب كذلك أن تبقى قائمة فيما مؤسسات الاقتصاد الخاص تُستَنزف وتعمل في مناخٍ عام يفتقر إلى كل المقوّمات المساعدة: غياب الإدارة العصرية وحسن الأداء في الضمان الاجتماعي؛ الأداء المخزي والمفجع للمؤسّسات والإدارات العامة التي باتت بفضل ممارسة السلطة السياسية مرتعاً للتوظيف المحازبي على حساب الكفاءة، ومرتعاً للرشى ومخالفة القوانين والأنظمة بشكل صارخ وفاضح؛ وأخيراً كيف تستمرّ المؤسسات في غياب البنية التحتية المساعِدَة لعملها، وقد أضحت هذه الأخيرة مصدر أكلاف إضافية لها لئلا نتكلّم عن عدم توفير وتجهيز المناطق الصناعية الحديثة.
وهكذا باتت المديونية بصريح العبارة عبئاً على الاقتصاد بكل مقوّماته وبجميع أطرافه.
وحان الوقت لحوار مُجدٍ بين وزارة المالية ومصرف لبنان وجمعية المصارف لاستشراف رؤية مالية بل ونقدية للبلد تؤخذ فيها مصالح الناس في الاعتبار، ويُصار لاحقاً إلى طرحها للنقاش العام وإلى مناقشتها وإقرارها من قبل السلطات السياسية بغية تحويلها إلى سياسة رسميّة للدولة.