فتى نحيل، طويل القامة، خجول، مشاغب، ودود، في عينيه ابتسامة دائمة. اسمه عُدَي. وُلد قبل اثني عشر عاماً في يوم خريفي ماطر. وقبل يومين، استيقظ مسروراً باستراحة المطر، مزهواً بشمس تشرين في بلدة برجا المطلّة على البحر. بحثَ عن الكرة بينما كان يقضم رغيف خبز. حملها بيديه، احتضنها، وخرج إلى باحة المنزل.
المنزل لا يشبه المنازل: حاوية شحن مصنوعة من الحديد، لكن سقفها يحمي العائلة من المطر.
الأب، ليس هنا، فهو هاربٌ من ثأر قديم منذ زمن بعيد. أحمد، الشقيق الأكبر لعُدي، يعمل في إحدى الورش. ابن الأربعة عشر عاماً يساند الأم وعُدَي وشقيقتهما منى.
حمل عُدَي الكرة وجلس قرب جذع شجرة زيتون. استيقظ أولاد يسكنون في الحيّ وانضموا إليه. لعبوا بالكرة، فيما عُدَي كان يتوقف قليلاً، يلهث طويلاً مستجيباً لضيق في التنفس يلازمه منذ أعوام. يتنفس بصعوبة، ثم يركض لاهثاً، معانداً. ابتعدت الشمس وتجمّعت الغيوم في السماء فأمطرت وتفرق الأولاد. وحيداً جلس عُدَي مستمعاً إلى صوت المطر.
دخل المنزل مبللاً، وفي عينيه ابتسامة. انتظر عودة أحمد من الورشة ليخبره بالقرار. عاد أحمد مُتعباً. صافح الأم والطفلة منى، ولما اقترب من عُدَي، قال له: «أحمد، دراجتي صارت إلك». ابتسم أحمد مستفسراً عن السبب، فأجابه: «دراجتك ما منيحة. هيدي أحسن بكتير. انت يا أحمد بتشتغل. أنا لأ. انت بتستاهلها. مبروكة عليك». وافق أحمد. ابتسم عُدَي.
في المساء، جلس أفراد العائلة حول مائدة العشاء. وبينما كانت الأم تسكب الطعام في الصحون، روى أحمد للأم ومنى قصة الدراجة الهوائية، قائلاً لهما إن عُدَي ادَّخر أربعة آلاف ليرة لبنانية خلال شهر، وتوجه بها إلى محل يبيع الخردة، مصمماً على شراء دراجة هوائية.
آنذاك، عرّف الفتى عن نفسه أمام صاحب المحل، مردداً: «أنا اسمي عُدَي صالح. عشت ببلدي سوريا 11 سنة. هربت مع أهلي من الحرب متل بقية السوريين. ما قدرت احمل معي دراجتي. ولما وصلنا ع لبنان طلبت من أمي نبقى هون. بلبنان الجبنة أطيَب من سوريا. وهون ما فيه قصف وصواريخ وبراميل. قدرت جمّع 4 آلاف ليرة. بدي اشتري من عندك دراجة. بتقبل كمّلك حقها بإني اشتغل عندك؟».
سكت أحمد. نظرت الأم في وجه عُدَي. خفض رأسه، فيما المطر كان ينهمر على السقف مسبباً رنيناً موسيقياً. تعوّد عُدَي على الصوت. لم يعد يحسبه رصاصاً. «دايمة»، قال الفتى للأم.
«شكراً يا عُدَي. هيدي أحلى هدية»، همس أحمد قبل أن ينام. تمدد عُدَي على الفراش قرب أحمد، محدقاً في نافذة صغيرة، وفي عينيه ابتسامة.
طلبت الطفلة منى من أمها أن تأخذها إلى منزل جدّها لتنام عنده. أحمد وعُدَي نائمان. اصطحبت الأم ابنتها إلى بيت جدها سيراً على الأقدام، ثم عادت ومعها ابنة شقيقها جنان، طفلة لم تبلغ عامها الثاني بعد. أشعلت الأم شمعة. نامت جنان، وغفت الأم بعد انتصاف الليل.
انتشرت في الغرفة رائحة أيقظت الأم. فتحت عينيها فرأت النيران تتمدد. «حريق!»، صرخت، فاستيقظ عُدَي ممسوساً. وقف مصدوماً، وقال لأمه: «اطلعي من هون!». خرجت الأم مهرولة مذعورة وهي تنادي على سكان الحيّ، بينما كان عُدَي يهز أحمد بيديه صارخاً: «قوم.. حريق.. اطلع من هون». نهض أحمد وركض مسرعاً ثم لحقه عُدَي. «جنان عنّا!»، هتفت الأم ملوّحة بيديها.
كان باب المنزل يحترق، ولهيب النيران يتمدد بسرعة في الغرفة. قفز عُدَي مقتحماً النار وهو يلهث. جثا على ركبتيه. احتضن جنان مثلما اعتاد احتضان الكرة. ولما وقف، أحنى رأسه حامياً به وجه جنان من النار. خرج وبسط يديه أمام أحمد. كان يلهث. حمل أحمد الطفلة، بينما وقف عُدَي أمام الباب للحظة، رأى النيران تلف الباب وتتمدد في الغرفة. رجع خطوة إلى الوراء وقفز مقتحماً النار، سامعاً صوت أمه تصرخ: «وين عُدَي!؟».
اقتربت الأم من الباب. استيقظ سكان الحيّ وتجمّعوا قرب الحاوية. كل منهم يحمل دلواً ويرمي المياه فوق النار. أحمد يدور حول البيت صارخاً بوجوههم: «عُدَي بالبيت!». الأم تضرب وجهها بيديها مرددة: «اطلع يا عُدَي!». يصرخ أحمد: «ما بدّي اياها للدراجة.. اطلَع يا عُدَي!».
لم يخرج عُدي.
هدأت النيران، خفتت شيئاً فشيئاً، استسلمت، وعند الفجر اختفت. في المنزل ثياب رثة، رماد، ورائحة بارود. ثمة سواد يلف الغرفة. لم يعثر عُدَي على شقيقته الصغيرة منى في الغرفة، فاتكأ بمرفقيه على الأرض، زحف نحو النافذة، وفي عينيه ابتسامة. إحدى يديه على صدره، متفحّمة، فيما الثانية تلامس حافة النافذة، تحاول النهوض.
نام عُدَي في حفرة. المطر ينهمر خفيفاً. يقف أحمد محدّقاً في بقايا الدراجة الهوائية. يحبس دموعه. يعبس عبوس طفل حزين. يفكّر بالعودة إلى بلدته السورية في حماه، لكنها دُمَرت. الحاوية احترقت. يداه في جيبيه. يدخل إلى الحاوية ثم يخرج، وفي عينيه طيف ابتسامة. يقترب منه شابٌ عشريني يسكن في البلدة. يعرض عليه منحه مبلغاً مالياً. يردّ عليه أحمد: «شكراً. تعلّمت من عُدَي أشياء كثيرة، من بينها أن لا أقبل المساعدة إلا من إنسان واحد: أخي».