عندما انطلقت الثورات الشعبية في تونس أولاً في عام 2010، كانت شرارتها انتحار بائع متجول لضيق مجالات العيش. ثم اندلعت شرارة الثورة في مصر في كانون الثاني 2011، ومن بعد في سوريا عقب تمنّع الرئيس عن إقرار إصلاحات جذرية اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولحقت بهما ليبيا واليمن.
وكانت شعارات الجماهير تطالب بالحرية، وبإنهاء الديكتاتورية، وكبح الاستغلال والفساد الفئوي والحزبي، وتكريس مبادئ الديموقراطية. ولم نشهد في أي من حركات المطالبة بتعديل الانظمة تكريساً لمطلب المحافظة على حقوق الفلسطينيين وإعانتهم على تحقيق حكم ذاتي.
وأدى تدفّق الجماهير الى هروب بن علي، والى تسليم مبارك نفسه وابنيه الى القوى الأمنية، أما القذافي الذي كان الأكثر طغياناً والأبعد عن أي إصلاح فقد خسر حياته بشكل مُذلّ، والأسد استمر في مقاتلة الثوار، الذين تعددت انتماءاتهم وتوجّهاتهم مع استمرار الأوضاع السورية في التفجّر. وعمّق الازمة السورية منذ نهاية الربيع المنصرم، تقدّم قوى “الدولة الاسلامية” سواء مقاتلي “داعش” أو “النصرة” وهنالك انسياب للمقاتلين بين التنظيمين سواء في العراق أو سوريا. واليمن شهدت استقالة علي عبدالله صالح وانتشار قوى الحوثيين المدعومين من إيران في البلاد، ولا تزال عناصر الاستقرار في اليمن مفقودة.
التطورات الاخيرة في العراق أدخلت بُعداً جديداً في محاولة استشراف المستقبل العربي، والتعاون بين بلدانه، وأضيف الى ذلك الدمار الذي لحق بحرب الإسرائيليين على غزة التي أوقعت مئات القتلى، والى خسائر بمليارات الدولارات.
التبادل التجاري العربي لا يزال ضئيلاً، واذا استثنينا مستوردات النفط في الأردن من المملكة العربية السعودية، ومستوردات الغاز للأردن وسوريا ولبنان سابقاً من مصر، ينخفض حجم التجارة البينية الى أقل من 7 في المئة، وتاليا ليس من مقدرا في المستقبل القريب والظروف العاصفة بعدد من الدول العربية توقّع ارتفاع نسبة التبادل البيني التجاري والاستثماري.
نعود الى الحقبة السابقة لاندلاع الثورات الشعبية العربية والتي شهدت أخيراً اندفاعاً أصولياً مخيفاً، فنرى ان غالبية الدول التي طاولتها الثورات كانت تعمل على تجاوز مرحلة الاشتراكية والتأميم للحاق بالتطورات العالمية التي اتسمت بتحرير مجاري التجارة، وانفتاح مجالات تحويل العملات من دون قيود. وكانت تونس بالذات تعمل على تبنّي السياسات الاقتصادية لدول السوق الأوروبية، التي كانت مصدر الاستثمار الأول فيها، كما كانت المجموعة التي يتوافد من بلدانها أكبر عدد من السياح الى تونس، هذا مع العلم ان تونس استقطبت استثمارات خليجية خاصة في مجالات الإعمار والسياحة والمصارف.
وسوريا تبنّت سياسات تهدف الى تحرير الاقتصاد تدريجاً، كان منها السماح بتأسيس مصارف خاصة وإدخال القطاع الخاص في المجال السياحي والاتصالات ونقل المواطنين، وإنشاء الجامعات، والتحضير لخصخصة مؤسسات عدة، وطرحت فكرة إشراك القطاع الخاص في إنتاج الكهرباء. وقد استقطبت سوريا توظيفات ملحوظة وخصوصا من مستثمرين خليجيين بينهم مجموعة الإماراتي ماجد الفطيم، والسعودي عبدالله الرميزان، والشيخ صالح كامل.
أما مصر، فأقرّت تشريعات شجّعت القطاع الخاص على خوض الاستثمارات السياحية والصناعية والزراعية على نطاق متوسّع، وخلال عقد التسعينات خفّضت مصر حصة القطاع العام من 60 في المئة من الدخل القومي الى 34 في المئة.
واليمن بدورها تبنت إجراءات لتحرير الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الأجنبي واستقطبت استثمارات ملحوظة وخصوصا في مجالات إنتاج النفط وتصديره.
وعلى رغم مساعي تحديث اقتصادات الدول المعنية، استمرت قوى الاستئثار بالمنافع الرئيسية تعوق خطوات التصحيح، وهذه الخطوات لم تكن مكتملة، خصوصا ان البلدان المعنية كان يسيّرها رؤساء وورثة رؤساء أشرفوا على شؤون البلاد والعباد، من غير ان يكون بينهم رئيس مدني يتمتع بخبرات اقتصادية على صعيد الإنماء. وكان أسوأ رئيس تمنّع عن إدخال أي إصلاحات معمر القذافي، كما ان إرثه السياسي تمثّل ولا يزال بالعصبيات القبلية ولا تزال ليبيا تشكو أكثر من أي من البلدان الاخرى، ما عدا سوريا، من الاقتتال وعدم القدرة على تكريس نظام، من أي نوع كان، للحكم وتسيير شؤون البلاد.
الاقتصاد ومستويات المعيشة وفرص العمل، وان كانت من المطالب الرئيسية للثوار في البلدان المعنية، لم تتصدّر قائمة الاهتمامات لدى المحركين على الأرض. فالسياسة كما في جميع الدول العربية، ومنها لبنان الذي لا يزال خارج دائرة العنف على نطاق واسع، تحظى بالاهتمام الأساسي لأن السيطرة السياسية على مقدّرات الشعوب هي، ويا للأسف، ما يحرك الثورات العربية، والجدول الآتي الذي يبيّن زيادة نسبة البطالة يعبّر عن الخسائر الاقتصادية الفادحة التي طاولت الثورات، علماً بأن هذه الخسائر لا تشمل الخسائر الضخمة التي واجهها ولا يزال يواجهها العراق، الذي يسعى رئيس وزرائه الجديد الى تلافي أضرار ولاية رئيس الوزراء السابق المتهم بتبديد 60 مليار دولار. وإنتاج العراق من النفط الذي كان بلغ 3 ملايين برميل يوميا انحسر الى 2,5 مليوني برميل، في حين تراجع انتاج ليبيا من 1,7 مليون برميل يومياً الى 750 ألف برميل. أما سوريا، فقد تراجع إنتاجها النفطي من 400 ألف برميل الى ما دون 100 ألف برميل، وإنتاجها من الغاز انحسر نتيجة احتلال الأصوليين حقولا، وإنتاج الكهرباء بات متعثّراً، كما أعمال الصناعة التي تعتمد الى حد بعيد على توافر الغاز، وبعض الصناعيين السوريين أسسوا لهم مصانع في لبنان وهم يشكون من الإجراءات الإدارية التي تعترض العمل في البلد.
لكن التداعيات والخسائر الاقتصادية، على فداحتها، لا توازي الخسارة في الأرواح والتي تجاوزت الـ200 الف في سوريا، كما الألوف في العراق وليبيا واليمن والحبل على الجرار.
تأثير انخفاض أسعار النفط
اضافة الى كل الخسائر المعدّدة والارقام المدرجة، بدأ العالم العربي يواجه خسائر مداخيل تصدير النفط والغاز. ومعلوم ان دول الخليج العربي كانت ولا تزال مصدر المعونات للدول العربية الأقل حظاً في توافر الثروات الطبيعية، وهي في الوقت ذاته الدول التي تحتضن آلاف السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين. وانخفاض أسعار النفط بالنسب التي نشهدها ستؤدي الى انحسار المشاريع في الدول المعنية، كما ستصيب بعضها بخسائر غير مباشرة. فالروس مثلاً الذين تقدّر خسائرهم على صعيد صادرات النفط بـ100 مليار دولار، لن يستطيعوا السياحة والإنفاق على النمط السابق، وهذا الأمر سيصيب دبي بأضرار ملحوظة.
إن التقدير العلمي الوحيد لخسائر أحد البلدان التي تواجه الثوار من كل لون، توافر من “الإسكوا” بالنسبة الى سوريا، اذ قدّرت الخسائر حتى نهاية 2013 بـ200 مليار دولار، تتزايد بـ50 – 60 ملياراً سنوياً ما دامت الحرب مستمرة. ولا شك في ان ليبيا خسرت المليارات، ولا تزال تعاني تجميد 75 ملياراً من حساباتها الخارجية بسبب قرارات الأمم المتحدة.
إن خسارة الدول العربية النفطية في المشرق العربي من انخفاض أسعار النفط والغاز توازي ضعفي خسارة روسيا، أي أكثر من 200 مليار دولار سنوياً، في حال استمرار انخفاض الأسعار، وهذا الأمر دفَع البلدان الخليجية الى اتخاذ خطوات احتياطية، سواء برفع أسعار الكهرباء، والمشتقات النفطية، وخفض الإنفاق على المشاريع. وفي حال انخفاض الأسعار الى حد أكبر، كما يقدّر الغربيون، ونحن لا نشاطرهم هذا الرأي وخصوصا بعد انقضاء ستة أشهر، لأن إنتاج النفط من الصخور، والبالغ 3 ملايين برميل يومياً في الولايات المتحدة، سينخفض بحسب الأسعار الحالية، وقد تجلّى هذا الأمر في انخفاض إنتاج حقول باكن Bakken شمال ولاية داكوتا 350 ألف برميل يومياً، لأن كلفة إنتاج هذا النفط توازي 80 – 85 دولاراً للبرميل.
باختصار، يمكن تصوّر العقد المقبل على أنه سيشهد شحّاً في المعونات، ما عدا مصر والى حد ما غزة، التي تتمتع بثروة غازية حالت إسرائيل دون استثمارها. وسوف تعاني سوريا نقصا في الموارد والاستثمارات لفترة طويلة. أما ليبيا، فاذا حققت بعض الاستقرار واستعادت نظاماً مقبولاً للحكم، فيمكنها استعادة الحق في التصرف بموجوداتها الخارجية. والصورة تبقى غير واضحة للعراق الى حين استعادة سيطرته على أراضيه وتوصله الى اتفاق مع الأكراد في الشمال. و”الفايننشال تايمس”، في مقال على صفحتين، لريما خلف المسؤولة عن شؤون الشرق الأوسط في الجريدة، اختارت له عنوانا “A Nation in Waiting”، وطن في الانتظار.