يتفق الجميع اليوم أن العلوم الطبية حققت تقدماً كبيراً، الأمر الذي تدل ّعليه بوضوح مؤشرات الصحّة العامة ومتوسط حياة الإنسان وعدد المتقاعدين ونسبة الطاعنين في السن في المجتمعات اليوم. لكن بالمقابل، يتفق الجميع أيضاً أن أعداد المصابين بأمراض مزمنة من أورام وغيرها «أمراض العصر»، تتزايد هي الأخرى، وخاصّة في المجتمعات الاستهلاكية المتقدّمة، كما تشير الإحصائيات.
وليست قليلة هي الأصوات التي تربط بين الغذاء الذي تنتجه الشركات الكبرى العاملة في مجال الصناعات الغذائية وتلك التي تروّج لاستهلاك منتجات تلك الصناعات وبين الآثار السلبية الكبيرة التي تقع على الصحّة العامّة. وفي هذا الإطار صدرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الكتب التي كرّسها مؤلفوها لهذا الموضوع، من بينها كتاب «نيكولا فرودنبيرغ»، الأستاذ في جامعة نيويورك الذي سبق له أن كرّس عدداً من أعماله للعلاقة بين الاستهلاك ومجتمع المدن في السياق الراهن.
يحمل الكتاب عنوان «مميت.. لكن قانوني»، ويبحث فيه مؤلفه في العلاقة بين الشركات والمجموعات الكبرى والاستهلاك وحماية الصحّة العامّة، كما يشير عنوانه الفرعي. ويركز على سلسلة مطاعم الوجبات السريعة التي انتشرت كثيراً في العالم. وفي مقدمتها « مكدونالد» و«كويك» وبقية أفراد أسرة «الهمبرغر».
تتوزّع مواد هذا العمل بين ثلاثة محاور أساسية. يتركز المحور الأول على تقديم البراهين أن المنتجات والسلع والأغذية المضرّة بالصحة غدت موجودة في كل مكان، وبالتالي تمثل مجالاً لـ« صناعة الأمراض».
ويشرح المؤلف في المحور الثاني سياسات الشركات والمجموعات الكبرى التي تسهم، حسب تحليلاته، في انتشار أوبئة وأمراض مزمنة. وهنا يبيّن المؤلف كيف أن سلسلة مكدونالد مثلاً تقوم بتوظيف «علماء» يستخدمون «العلم والتكنولوجيا بألف طريقة (…) من أجل صد الآراء السلبية الموجّهة ضد السلسلة».
أمّا المحوّر الثالث فهو مكرّس للحديث عن أشكال من الوعي ذي الطابع الأخلاقي الذي قد يكون بمثابة مقدّمة لـ«بروز منظومات اقتصادية جديدة»، في سبيل ضبط مصادر الاستهلاك.. ويشرح أن «مكدونالد» أكبر شارٍ للحم البقر في العالم، وبالوقت نفسه الذي يتغذّى منه أكبر عدد من الأطفال بين جميع مطاعم المعمورة. والإشارة أن استراتيجية سلسلة مكدونالد كانت قد حددت المستهلكين الذين سيكونون هدفاً لها بالشريحة الأكثر شباباً في المجتمع.
المسألة الأساسية التي يؤكّد عليها المؤلف بأشكال مختلفة في الكتاب هو أنه من مسؤولية حكومات العالم أجمع، أن تتحمّل مسؤولياتها في حماية الصحّة العامّة في بلدانها. وأن تقوم بضبط آليات عمل جميع المؤسسات التي لنشاطاتها علاقة مع الصحّة العامة..
وبالتالي لها علاقة مع المرض وكلفته ونظام الضمان الصحي. وبهذا المعنى يمثّل هذا الكتاب في أحد وجوهه نوعاً من «النداء» من أجل الحد من «الأغذية المنتجَة صناعياً»، والتأكيد على ضرورة رسم «استراتيجيات » تصبّ في اتجاه تحسين الصحّة العامّة.