مارتن وولف
كانت الاقتصادات الرئيسة ذات الدخل المرتفع – الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو، واليابان، والمملكة المتحدة – تعاني “متلازمة نقص الطلب المُزمن”.
بتعبير أدق، فشلت القطاعات الخاصة فيها في إنفاق ما يكفي لتقريب الناتج من إمكاناته بدون إغراءات السياسات النقدية فائقة القوة، أو العجز الكبير في المالية العامة، أو كلاهما.
متلازمة نقص الطلب أصابت اليابان منذ أوائل التسعينيات، وامتدت إلى الاقتصادات الأخرى منذ عام 2008 على أبعد تقدير. ما الذي يجب عمله حيال ذلك؟ للإجابة على هذا السؤال، عليك أن تفهم نوع المرض.
الأزمات عبارة عن توقف مفاجئ في قلب النظام المالي. ولها آثار يحتمل أن تكون مدمرة على الاقتصاد. دور الطبيب الاقتصادي هو إبقاء المريض حياً بمنع النظام المالي من الانهيار والحفاظ على الطلب.
الوقت الذي يدعوه إلى لقلق بشأن أسلوب حياة المريض ليس أثناء النوبة القلبية، بل الأمر المهم هو المستغرق لإبقاء المريض على قيد الحياة. مثل النوبات القلبية، فإن الأزمات المالية لها آثار طويلة الأمد، أحد الأسباب هو الدمار الذي يصيب القطاع المالي. وسبب آخر هو فقدان الثقة بالمستقبل، لكن هناك سبب آخر هو أنها تؤدي إلى تراكم الديون في الفترة التي تسبق الأزمة، بصورة لا تُطاق. ما يحدث بعد ذلك هو “ركود الميزانية العمومية” – وهي فترة يركّز فيها المَدين على سداد الديون.
سياسة ما بعد الأزمة يجب أن تعوّض أو تخفف مثل هذا التخفيض في الرفع المالي لدى القطاع الخاص. كذلك فإن بإمكان السياسات النقدية والمالية الداعمة المساعدة على مباشرة الأمرين. دون السياسات التي من هذا القبيل، من المحتمل حدوث حالات من الهبوط الهائل، كما حدث مع البلدان الأعضاء في منطقة اليورو، التي تأثرت بالأزمة.
ما يكمّل تخفيض الديون وتقليص الرفع المالي هو: إعادة هيكلة الديون. أوصى كثير من خبراء الاقتصاد بإعادة الهيكلة من هذا القبيل باعتبارها جزءا أساسيا من الحل. في قطاع الأُسر على الأقل، كان أداء الولايات المتحدة في هذا أفضل بكثير من منطقة اليورو، لكن تنظيم إعادة هيكلة الديون أمر صعب للغاية، طالما كان المقترضون يرفضون الإقرار بالهزيمة.
هذا ينطبق على القطاع الخاص، وحتى أكثر على القطاع العام. هذا أحد الأسباب التي تجعل الآثار اللاحقة المترتبة على الديون مستمرة لوقت طويل جداً. مع ذلك هناك احتمالات مزعجة أكثر من الآثار اللاحقة للديون.
في كتابي “التحوّلات والصدمات”، أشرت إلى أن عددا من التحوّلات في الاقتصاد العالمي، قد خلقت طلباً ضعيفاً بشكل مزمن في غياب طفرات الائتمان.
من بينها، كان هناك الادخار المفرط في الاقتصادات الناشئة؛ والتحوّلات في توزيع الدخل، والشيخوخة وتراجع طويل الأمد في الميل إلى الاستثمار في البلدان ذات الدخل المرتفع.
وراء هذه التحوّلات تكمُن، من بين أمور أخرى، العولمة، والابتكار التكنولوجي، والدور المتنامي للقطاع المالي. فلا يكفي التنظيف بعد أن تنهار طفرة الديون. كما يجب على صنّاع السياسة أيضاً القضاء على اعتماد الطلب على الائتمان غير المستدام. دون ذلك، حتى التنظيف الجذري لن يُحقق ازدهار الطلب.
صحيح أنه إذا كانت البلاد صغيرة، قد تكون قادرة على استيراد الطلب المفقود عبر الحسابات الخارجية، لكن عندما تعاني أجزاء كبيرة من الاقتصاد العالمي، ستنشأ الحاجة إلى حلول بديلة.
هناك ثلاثة بدائل واسعة، العيش مع ضعف الطلب المزمن؛ أو تبنّي سياسات طلب قوي إلى أجل غير مسمى (كما فعلت اليابان)؛ أو إصلاح نقاط ضعف الطلب الهيكلي الأساسية.
السياسة النقدية شديدة القوة تساعد من خلال تقديم أسعار فائدة حقيقية تكون فعلاً أقل من الصفر. أحد البدائل هو العجز المالي، لكن هذا يهدد بوضع الدين على مسار مرتفع بشكل دائم.
مع ذلك، فإن الحل غير التقليدي أكثر هو تمويل نقدي صريح للعجز في المالية العامة، كما أوصى أدير تيرنر، رئيس مجلس الإدارة السابق لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة.
هذا يعني تأميم خلق الأموال الذي تم تفويضه الآن إلى البنوك الخاصة، التي غالباً ما تكون غير مسؤولة. هذه طريقة مباشرة أكثر (وربما أكثر فعالية) من استخدام سلطة البنك المركزي، لخلق الأموال من أجل توسيع الطلب بدلاً من توظيفها بشكل غير مباشر، عبر التلاعب بأسعار الأصول.
مثل هذا التسييل المباشر للعجز يبدو معقولاً بشكل خاص في اليابان. البديل هو معالجة مصادر الطلب الضعيف هيكلياً. إحدى السياسات هي إعادة توزيع الدخول من المدخرين إلى المنفقين. سياسة أخرى ستكون في تشجيع الإنفاق. وهذا هو السبب في أن زيادة ضريبة الاستهلاك في اليابان كانت خاطئة وفي غير محلها.
يجدر باليابان بدلا من ذلك أن تفرض ضريبة على المدخرات. على أن هذا يخالف التحيز الذي يرى أن الادخار أمر قيم، لكن في عالم يعاني متلازمة نقص الطلب، فإن الادخار غير مفيد. ينبغي تثبيط الناس عن الاحتفاظ بالمدخرات غير المنتجة.
وراء الضعف، الذي وقع في أعقاب الأزمة والطلب الضعيف بصورة متواصلة، تكمن إمكانية العرض الضعيف هيكلياً. الحل هو تشجيع الناس على العمل والاستثمار والابتكار.
غير أن السياسات المصممة لتشجيع العرض يجب ألا تعمل في الوقت نفسه على إضعاف الطلب. هذه هي إحدى الصعوبات التي تحيط بالتوصية المعهودة المكرورة حول إصلاح سوق العمل، التي تنطوي على تخفيض الأجور بالنسبة لقطاع كبير من القوة العاملة، وجعل الأمر أسهل على أصحاب العمل من حيث توظيف وتسريح العمال.
ويرجح لهذا أن يؤدي إلى تخفيض الاستهلاك على الأقل على الأمد المتوسط – وهذه هي بالضبط تجربة ألمانيا في العقد الأول من القرن الحالي. يفترض في الإصلاحات أن تشجع الطلب. وهذا هو السبب في أنه لا بد لمنطقة اليورو من الاستقرار والاتفاق على صفقة متوازنة، وليس الاعتماد المفرط على الإصلاحات الهيكلية.
خلفت الأزمة تركة كئيبة. كان أداء منطقة اليورو من حيث التعامل مع هذه الأزمة، أسوأ من أداء الولايات المتحدة مثلا، لكن أصول الأزمة موجودة في مواطن الضعف الهيكلي التي طال عليها الأمد.
وعلى السياسة الاقتصادية أيضا أن تعالج مواطن الإخفاق هذه، إذا أرادت ألا يكون الخروج من الأزمة الحالية رحلة نحو الأزمة التالية. يرجح أن تكون الأجوبة غير تقليدية، لكن هذه هي أيضا حال الوضع الاقتصادي اليوم. الأمراض النادرة بحاجة إلى علاجات غير عادية. لذلك يجب علينا أن نبحث عنها.