Site icon IMLebanon

سعيد عقل يلاقي “الشحرورة” في رحلتها!

غيّب الموت الشاعر والأديب الكبير سعيد عقل عن عمر يناهز مئة وسنتين.

وقد نعت جامعة سيدة اللويزة ـ ذوق مصبح عقل، معلنةً عن أنّه “واحتراماً منا وتقديراً للمطربة الكبيرة صباح التي سيحتفل بالصلاة على نفسها يوم الاحد، قرّرنا تأجيل كل ما يتعلق بالراحل الى يوم الاثنين حيث يسجى في هذه الجامعة لالقاء النظرة الاخيرة”.

وأوضحت الجامعة أنّ الجثمان “سينقل صباح الثلاثاء الى كاتدرائية مار جرجس المارونية بيروت لاقامة الصلاة لراحة نفسه في الحادية عشرة والنصف قبل الظهر، ثم ينقل الى مدينته زحلة حيث تقام صلاة وضع البخور في كاتدرائية مار مارون كسارة، وينقل الى مدفنه الخاص على بيدر زحلة”.

ولد في الرابع من شهر تموز عام 1912 في زحله طفل عبقري هو سعيد عقل. وكانت طفولته مليئة بالوَرْد في ظِلّ أمّ مَلاكٍ وفي كَنَفِ والد كان نَهراً من نخوة ومن كرم. فنشأ على كثير من الحبّ والدلال، آخذاً عن أمُّه الطَّهارة، وعن أبيه روح العطاء. اما عن تاريخ بلدته زحله فاخذ النخوّة والبطولة.

وكان الله قد وهبه إطلالةً فريدةً، ونبوغاً أكيداً، فتمَّت له النعمّة، وَبَرَز متفوقاً في مدرسة الإخوة المريِّـميين في زحله حيث بدأ دراسته حتّى أتمَّ قسماً من المرحلة الثانوية. وكان يعتزم التخصُّص في الهندسة، إلاّ انَّه وهو في الخامسة عشرة من عمره خَسِرَ والده خَسارة ماليَّة كبيرة، فاضطرَّ الفتى أن ينصرف عن المدرسة ليتحمّل مسؤولية ضخمة وأعباء بيتٍ عريق. فمارس الصِّحافة والتعليم في زحله. لكنّه استقر في بيروت منذ مطلع الثلاثينَّيات وكَتَبَ بجرأة وصراحة في جرائد “البرق” و”المعرض” و”لسان الحال” و”الجريدة” وفي مجلَّة “الصَّيّاد “. ودرّس في مدرسة الآداب العليا، وفي مدرسة الآداب التابعة للأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وفي دار المعلمين، والجامعة اللبنانيّة. كما درّس تاريخ الفكر اللُّبناني في جامعة الرُّوح القُدُس وألقى دروساً لاهوتيَّةً في معهد اللاّهوت في مار انطونيوس الأشرفية. كلُّ ذلك بدِقّة وإتقان، وتعمّق في اللاّهوت المسيحيّ حتّى اصبحَ فيه مرجعاً.

وأخذ عن المسيحيّة في جملة ما اخذ، المحبّة والفرح، والثَّورة أوانَ تقتضي الحال ثورةً تكون وسيلة للسَّلام.

ودرس تاريخ الإسلام وفِقْهَهُ، فحبَّبه الإسلام بأمور خمسة:

1- ان يعرف أنّ الله ليس رَبَّ جماعة دون سواها وانّما هو ربُّ العالمين.

2- أن يُمارِسَ الزّكاة فيُعطي ممَّا أعطاه إيَّاه الله .

3- أن يُردّد كلَّما فَكَرَّ بأمّه أجمل قَول قُرِىء عن الأمّ في كتاب، و هو : “الجنَّة تحت أقدام اللأمَّهات”.

4- أن يَنْذَهِلَ بلبنان كيف أنَّه أوْحَى إلى مَنْ يَعرفون ان يُحبّوا، إدخالهَم على الحديث أنّ تُراب الجنَّة فيه من لبنان، وأنَّ عَرْشَ الله مصنوع من خشب الأرز الذي في لبنان.

5- إنْ نَسيَ كُلَّ ما قِيل عن الحبّ في الدنيا كلِّها أن لا ينسى كلمة محمد: “إثنان ماتا من وفرة ما أحَبَّ الواحد منهما الآخر يَدْخُلانِ رأساً إلى الجنّة”.

 

ولقد أعطى سعيد عقل ذاته التطلُّب الطَّامح، والرؤيا الكبيرة، والتَّعب على شغل شخصيَّته ورَصْفِها مثلما يُريدها أن تكون كما شُغِف بالنَّزعة المثاليّة والرُّوح الترسّلي وانتدب نفسه شأن الكبار في الدنيا لمهّامَّ جُلّى، فأنشَأ سنة 1962 جائزة شعريّة من ماله الخاص قَدْرُها ألفُ ليرة لبنانية تمنح لأفضل صاحب أثر يزيد لبنان والعالم حُبّاً وجمالاً.

في الثَّلاثينيَّات (1935) أطلع سعيد عقل “بنت يَفتاح” المأساة الشَّعرية، وهي أولى مسرحيات لبنان الكلاسيكيّة ذات المستوى، وقد نالت يومذاك جائزة “الجامعة الأدبية” وفي الثَّلاثينيَّات ايضاً انفجرت قصيدته “فخر الدين” المطوَّلة التاريخية الوطنيّة فبرهنت أنَّ الشِعر يقدر ان يؤرّخ ويَظلَّ شعراً مُضيئاً ،وأن يسرد قِصّة، متقيّداً بالأصول ويظلّ مؤثراً.

سنة 1937 أصدر “المجدلية” التي بمقدّمتها غَيَّرت وجه الشّعر في الشرق، والمجدلية الشّعر قصّة أعطت جديداً ، لقّنت أنّ الشعر سكرة كثيفة الجمال ضوئية، جوهرها موسيقى يتّحد بها الشاعر حميماً مع الكون.

سنة 1944 اطلت مسرحيّة قدموس، عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريّة رائعة، وبدأ سعيد عقل يكون مهندس النفس في الأمّة اللبنانية، انّ قدموس، لون جديد من الملاحم التي تهزّ ضمير الأمّة وتشكّ لبنان على عرش من عروش الشّعر في العالم، وإن يكن سعيد عقل قد سمّاها مأساة .

سنة 1950 أشرقت شمس “رِنْدَلى” وصار الحبّ احلى، غدا يخصّصُ له ديوان كامل، ففي غمرة الشعر التقليدي والغزل الاباحيّ الفاحش ردّ سعيد عقل الى المرأة تاجها، فغدت من بعده تُحبُّ وتُعبَدُ. كَوْكَبَ الغزل النبيل الذي يمكن ان يُقرأ في الكنائس والمساجد. وبعد “رندلى” الشّعر سُمِّيت مئات البنات بهذا الاسم.

سنة 1954 صدر له كُتيّب نثري “مُشكلة النخبّة” الذي يطالب فيه سعيد عقل بإعادة النّظر في كلّ شيء من السياسة الى الفكر والفن.

سنة 1960 صدر كتاب “كأس الخمر” وهو يتضمّن مقدّمات وضعها سعيد عقل لكتب منوّعة، وشهد بها لشعراء وناثرين، مبرزاً مواهبهم، مقيّماً انتاجهم، وناهضاً بالنقد الأدبي وبمقدمّات الكتب الى مستوى نادر في النّثر الحديث.

وفي هذه السنة ايضاً حكى لبنان كما يجب ان يحكى فصدر: “لبنان إن حكى” كتاب المجد الذي يعلّم العنفوان والشّهامة، وينشُر امجاد لبنان باسلوب قصصي أخّاذ ومضيء، يترجّح بين التاريخ والاسطورة ، ويأسرك بجوّ عامر بالبطولة يستثيرك حتى البكاء.

كما صدر ايضاً كتاب “أجمل منك؟ لا… ” حاملاً غزلاً يُصلّى به صلاةً بأسلوب ارتفع الى ذروة المرونة الإنشائية وتنوّع القوافي، كما امتاز بمواكبة التركيب الشعري للموجات النفسيّة في قصائد تشبه السيمفونيّات.

سنة 1961 صدر كتاب “يارا” وهو شعر حبّ باللغة اللبنانيَّة، قصائد ولا اجمل تجمع بين البساطة ومُناخ الخمائل، تُكوكب البال وتسكُبُ خمراً جديدة في كؤوس من زنابق.

سنة 1971 صدر كتاب “اجراس الياسمين” ، وهو شعر يغني الطبيعة بغرابة فريدة وبحدّة حِسّ وذوق.

سنة 1972 صدر “كتاب الورد” وهو نثر شعري ذو نفحات حب ناعمات من حبيب الى حبيبته، وهمسات حالمات من قلب حلوة “ينغمش” ويمطر ورداً وياسمينا.

سنة 1973 صدر كتاب “قصائد من دفترها” شعر حبّ يغني العذريّة والبراءة بكلام من ضوء القمر على تلال لبنان بين الأرز والصنوبر وقد كستها الثلوج يمثل ثوب عروس.

سنة 1974 صدر كتاب “كما الأعمدة” وهو بعلبكّ الشعر وقد سجلت فيه روعة العمار، ودقّة الجمع بين الفخامة والغِوى. ذروة الكلاسيكيّة التي لا تشيخُ، مرصّعةً ببعض اللُقى واللمَع الرمزيّة. والأعجب في هذا الكتاب أنَّه يرفع المناسبات العاديّة الى سماء البال وأجواء الشعر اللبناني.

ومن كتبه كتاب “خماسيَّات” وهو مجموعة أشعار باللغة اللبنانية والحرف اللبناني وقد صدر سنة 1978 .

وكتاب خماسيّات الصبا باللغة الفصحى، وقد صدر سنة 1992. وهذه الخماسيّات باللغتين اللبنانيّة والفُصحى تمثّل ذُروة الكثافة في المضمون، كما تمثّل التفرُّد العالمي في الشّكل الشِعري الذي يَحبِسُ جزءاً من عمر في عبارات لا طويلة ولا قصيرة. وإنّما هي بمعدّل ما يتوقَّعها السَّمع تنتهي فعلاً ويرتاح الشّاعر حين تنفجر .

سنة 1981 صدر لسعيد عقل ديوان شعر باللّغة الفرنسيّة اسمه “الذَّهب قصائد” وهو كتاب جامع يحمل خُلاصة ما توصّل اليه فكر سعيد عقل في أوْجِ نُضجه. ولعلَّه الكتاب العالميّ الذي سيردّ الى اللغة الفرنسية عظمة تفوق عظمة بول فاليري وما لارمه وسواهما من شعراء فرنسا الكبار .

وله ايضًا عدّة دواوين مخطوطة وجاهزة للطَّبع، وهو كُلّما زاد في العمر عاماً زاد تألُقاً وعطاءً.