IMLebanon

‬فى جامعة هارفارد‮:‬ ‬يدرسون النموذج المصرى لتمويل البنيـــــة الأساسية

EgyptCurrency1
نعمان الزياتى

فجرت قضية الاعتماد على الذات فى تمويل مشروع قناة السويس كثيرا من القضايا المحلية والإقليمية والدولية،‮ ‬بل طالت كثيرا من ثوابت النظريات الاقتصادية التى تشدق بها الغرب كثيرا خاصة فيما‮ ‬يتعلق بتمويل التنمية وبدور الاستثمارات الأجنبية لسد العجز الناتج بين الاستثمار والادخار،‮ ‬فكان‮ ‬ينظر إلى قضية التمويل على أنها العنصر الحاكم والحاسم لمسار عملية التنمية،‮ ‬ومن هنا كان الاهتمام المكثف بقضية الاستثمار،‮ ‬ولم تكن خطط التنمية سوى خطط للاستثمار فقط‮. ‬ومن ثم لم نر سوى الاهتمام الزائد بتصاعد معدل الاستثمار أو انخفاضه ولا‮ ‬يهمهم كثيرا مما‮ ‬يتكون مستوى الاستثمار من الناحية الفعلية ولا مدى إنتاجية هذا الاستثمار،‮ ‬بالإضافة إلى أن تضخيم الدور الذى‮ ‬يلعبه الاستثمار فى عملية التنمية أدى إلى تواضع مستوى الادخار المحلى وإلى اتساع فجوة الموارد المحلية وهى الفجوة القائمة بين الاستثمار المطلوب والادخار المحلى مما أدى إلى الالتجاء إلى سد هذه الفجوة عن طريق الإفراط فى التمويل الأجنبى وخصوصا عن طريق الاقتراض من الحكومات والمؤسسات الدولية الذى نتج عنه ارتفاع المديونية الخارجية‮. ‬وبدلا من النظر إلى التمويل الخارجى على أنه عنصر ثانوى مكمل للموارد المحلية نظرنا إليه على أنه بديل لجهد الادخار المحلى مما أدى إلى تزايد أعباء التمويل الخارجى الذى أصبح‮ ‬يلتهم نسبة متزايدة من الموارد المحلية والذى تمثل فى ارتفاع نسبة ما نخصصه من حصيلة الصادرات لدفع أعباء الديون الخارجية‮. ‬فقضية تمويل قناة السويس فجرت الوعى الادخارى لدى الأفراد وإذكاء روح المشاركة الشعبية فى التنمية المحلية وأدرك المصريون أن إحجام الأفراد عن استثمار أموالهم وتوجيهها إلى زيادة الاستهلاك لا‮ ‬يؤدى إلى عرقلة تنفيذ الخطة فحسب ولكن إلى خلق سوق‮ ‬يزداد فيها الطلب على العرض وتنتهى بمشاكل اقتصادية لا حصر لها‮. ‬وأيقن الشعب أن النهج الذى سرنا عليه فى التنمية خلال العقود الماضية ليس وليد قناعات فكرية واستجابة لضرورات اقتصادية واجتماعية تلبى احتياجاتنا،‮ ‬بل نهج فرض علينا من الخارج والاستمرار عليه سيؤدى إلى إعادة إنتاج وصياغة علاقات التبعية لمرحلة جديدة أسوأ مما كنا عليه‮. ‬لهذا كان الإقبال على شراء سندات مشروع قناة السويس بمثابة رد مباشر على النهج القديم واعترافا بضرورة بناء نموذج مصرى خالص للتنمية‮. ‬فلا‮ ‬غرابة إذن من طرح هذا النموذج الفريد على موائد البحث فى كثير من مراكز البحوث وأجهزة الاستخبارات التى رسمت سيناريوهات مختلفة جذريا عن هذا السيناريو الذى فاجأ الجميع‮ . ‬هذا النموذج طرح فى جامعة هارفارد لبحث مدلولاته السياسية والاقتصادية مستقبلا مما‮ ‬يحتم معه إعادة دراسة الشخصية المصرية من جديد بعد التغيرات التى لحقتها بعد ثورات الربيع العربى‮. ‬ونحن بصدد الإعداد لقانون جديد للاستثمار وإعادة فتح الباب للاستثمار الأجنبى علينا أن ندرك الثوابت المتعلقة بأمننا القومى وأن نستفيد من تجارب الآخرين فى هذا المجال وأن نعظم العائد من الاستثمار الأجنبي‮. ‬فالقضية ليست الآن كما كانت فى الماضى البحث عن التمويل وسد العجز لكنها أكبر من ذلك بكثير،‮ ‬فتعزيز الاستثمار فى البنية الأساسية‮ ‬يتطلب ما هو أكثر من المال‮.‬

إن بعض البلدان تحقق قدراً‮ ‬هائلاً‮ ‬من فوائد النمو بالإنفاق على بنيتها الأساسية،‮ ‬فى حين لا تحقق بلدان أخرى أى منفعة تقريباً‮ ‬من هذا الإنفاق‮. ‬ونحن نفتقر بشدة إلى مشروعات البنية الأساسية،‮ ‬وبخاصة الطرق والسكك الحديدية والطاقة المتجددة والمياه العذبة والصرف الصحي،‮ ‬وتحسين سبل تسليم الخدمات التى نعتمد عليها،‮ ‬بما فى ذلك الرعاية الصحية ودعم إنتاج الغذاء‮. ‬فترتيب أولويات الاستثمار والتخطيط الجيد وتصميم المشروعات السليمة من الممكن أن تعزز بشكل كبير تأثير البنية الأساسية الجديدة على النمو وخلق فرص العمل،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن زيادة العائدات فالاستثمار فى البنية الأساسية‮ ‬يدر عائدا مزدوجا‮: ‬فهو‮ ‬يعزز الإنتاجية والقدرة التنافسية فى الأمد البعيد ويعزز الطلب ويخلق فرص العمل فى الأمد القريب‮. ‬نحن فى حاجة إلى نوعين من الاستثمار على قدر عظيم من الأهمية‮: ‬الطرق والطاقة الكهربية،‮ ‬فبدونهما لا مجال لإنشاء اقتصاد حديث‮.‬

ولا‮ ‬يوجد نموذج واحد‮ ‬يمكن أن نقتدى به،‮ ‬حيث إن لكل بلد قدرته الخاصة على التجربة واستكشاف أفضل توليفة مناسبة لظروفه الخاصة والمتوافقة مع تطلعات سكانه‮. ‬وكانت أيديولوجية اقتصاد السوق المتطرفة هذه،‮ ‬معاكسة على طول الخط لدروس التنمية العملية الناجحة فى بلدنا وبلاد أخرى مثل الصين وبقية دول آسيا‮. ‬ذلك أن أى إستراتيجية تنموية عملية تدرك أن الاستثمارات العامة فى الزراعة،‮ ‬والصحة،‮ ‬والتعليم،‮ ‬والبنية الأساسية تشكل مكملاً‮ ‬ضرورياً‮ ‬للاستثمارات الخاصة‮. ‬إلا أن البنك الدولى نظر إلى هذه الاستثمارات العامة الحيوية باعتبارها عدواً‮ ‬لتنمية القطاع الخاص‮. ‬ولقد خابت التوقعات الضخمة التى علقناها على القطاع الخاص لتمويل البنية الأساسية‮. ‬فما تزال الاستثمارات الخاصة محدودة للغاية‮. ‬وما تزال الحكومة تتولى القدر الأعظم من التمويل‮.‬

علينا أن نهيئ المناخ الاستثمارى للمستثمرين المحليين أولا وأن نزيل جميع العقبات التى تعترض طريقهم خاصة بعد أن أصبحت قضية التمويل من القضايا العصية عن الحل اذ إن العديد من البنوك التجارية الغربية التى كان لها وجود كبير فى الماضى انسحبت بالفعل،‮ ‬ومن‮ ‬غير المرجح أن تعود قبل إصلاح ميزانياتها العمومية التى أضرت بها الأزمة وبناء رأس المال اللازم لتلبية المعايير التنظيمية المشددة‮. ‬ونظراً‮ ‬لندرة الموارد المالية العامة،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن القيود المالية الأخرى،‮ ‬فإن زيادة الإنفاق ستحتم على المستفيدين من استخدام البنية الأساسية أن‮ ‬يتحملوا المزيد من التكاليف‮. ‬وهذا‮ ‬يتطلب تنمية ثقافة المشاركة،‮ ‬علاوة على إنشاء شبكة أمان لهؤلاء المواطنين الذين‮ ‬يعجزون عن تحمل مثل هذه التكاليف‮. ‬بالإضافة إلى إعادة النظر فى سلم الأولويات،‮ ‬ولنا فى النموذج الصينى دروس‮ ‬يجب أن نتعلمها،‮ ‬حيث أكد المسئولون الصينيون الدور الحاسم الذى تلعبه الاستثمارات العامة،‮ ‬وبصورة خاصة فى مجال الزراعة والبنية الأساسية،‮ ‬لتمهيد الطريق أمام النمو اعتماداً‮ ‬على القطاع الخاص،‮ ‬وتتلخص نقطة الانطلاق الرئيسية فى رفع الإنتاجية الزراعية‮. ‬ويحتاج المزارعون إلى الأسمدة،‮ ‬ووسائل الرى،‮ ‬والبذور ذات الإنتاجية العالية،‮ ‬وكل ذلك كان‮ ‬يشكل جزءاً‮ ‬أساسياً‮ ‬من الانطلاقة الاقتصادية‮. ‬ولابد من تجنب الإغراء المتمثل فى بناء مشروعات عملاقة ولكنها قليلة القيمة،‮ ‬وينبغى أن‮ ‬يتم اختيار المشروعات على أساس قدرتها على زيادة الإنتاجية وتعزيز المنافسة‮. ‬وهذا‮ ‬يقتضى إنشاء هيئة مستقلة لمشروعات البنية الأساسية قادرة على إدارة التخطيط الملائم والإشراف والتقييم لكل المشروعات المطروحة لتنفيذها‮ . ‬وهى وحدها التى تقوم باختيار مشاريع البنية الأساسية التى‮ ‬يمكن الاستثمار فيها ــ بما فى ذلك التقييم المنظم للتكاليف والفوائد استناداً‮ ‬إلى معايير محددة تمثل الأهداف الاقتصادية والاجتماعية‮ .‬

ففى كوريا الجنوبية نجح مركز إدارة الاستثمارات العامة والخاصة فى البنية الأساسية فى خفض الإنفاق على البنية الأساسية بنسبة‮ ‬35٪،‮ ‬واليوم‮ ‬يرفض المسئولون‮ ‬46٪‮ ‬من المشروعات المقترحة التى‮ ‬يراجعونها‮. ‬ويتولى جهاز الاستثمار العام الوطنى فى شيلى تقييم كل المشروعات العامة المقترحة باستخدام نماذج وإجراءات ومقاييس معيارية،‮ ‬ويرفض ما قد‮ ‬يصل إلى‮ ‬35٪‮ ‬من المشروعات المقترحة‮. ‬وعلى نحو مماثل أنشأت المملكة المتحدة برنامج مراجعة التكاليف الذى حدد أربعين مشروعاً‮ ‬رئيسياً‮ ‬كأولويات،‮ ‬وأصلح عمليات التخطيط الإجمالية،‮ ‬ثم أنشأ لجنة فرعية فى مجلس الوزراء تتلخص مهمتها فى ضمان تسليم المشروعات بسرعة أكبر،‮ ‬وبالتالى خفض الإنفاق على البنية الأساسية‮. ‬ويتعين على الحكومة أن تدرك أن القطاع الخاص قادر على توفير ما هو أكثر من مجرد تمويل البنية الأساسية،‮ ‬فهو قادر أيضاً‮ ‬على توفير المهارة المعرفية فى مراحل التخطيط والبناء والتشغيل‮. ‬والآن تعمل دول مثل شيلى والفلبين وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية وتايوان على تطوير أطر تعمل على توسيع الدور الذى‮ ‬يقوم به القطاع الخاص فى التخطيط للمشروعات‮.‬

اليوم نحن فى حاجة إلى إنشاء بنك لمشروعات البنية الأساسية‮ (‬ليس على‮ ‬غرار بنك الاستثمار القومى‮) ‬للمساعدة فى تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص‮. ‬وأعتقد أنها فكرة جيدة،‮ ‬وخاصة إذا استعان البنك بهيئة عاملين مهنية للمساعدة فى توجيه الاختيار العام فى ما‮ ‬يتصل بالتكاليف والفوائد‮ (‬بما فى ذلك التكاليف والفوائد البيئية‮). ‬أو إنشاء صندوق ائتمان الطرق،‮ ‬لتمويل البنية الأساسية للطرق‮. ‬ويمكن تمويل صندوق ائتمان الطرق بفرض ضريبة على البنزين‮. ‬وقد أعرب بعض أصحاب السيارات عن استعدادهم لدفع المزيد فى مقابل البنزين لتمويل تحسين الطرق والجسور والنقل الجماعي‮.‬

اليوم الكل‮ ‬يتسابق لإنشاء وتطوير البنية التحتية بما‮ ‬يمكن أن نطلق عليه‮ «‬حمى البنية التحتية‮» ‬التى ضربت معظم دول العالم المتقدم منه قبل النامى لماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين ونقلدهم فيما نجحوا فيه‮. ‬لقد قامت الصين وعشرون دولة آسيوية أخرى فى الشهر الماضى بالتوقيع على مذكرة تفاهم من أجل تأسيس بنك تنمية جديد متعدد الأطراف‮ ‬يدعى»بنك تنمية البنية التحتية الآسيوى‮» ‬وينظر إلى هذا البنك الذى اقترحته الصين على أنه التحدى المؤسساتى الجدى الأول للبنك الدولى وبنك التنمية الآسيوي‮. ‬وستساهم الصين بحصة تبلغ‮ ‬حوالى‮ ‬50٪‮ ‬كما ستقوم بتزويد البنك بأول رئيس له كما سوف‮ ‬يكون مقر البنك فى بيجين‮. ‬وسوف تستخدم الصين بنك تنمية البنية التحتية الآسيوى للمساعدة فى تمويل طريق حرير جديد وهو طريق برى وبحرى‮ ‬يربط شرق آسيا بأوروبا،‮ ‬وهو مشروع منافس خطير لقناة السويس‮ . ‬بالإضافة إلى إنشاء بنك التنمية الجديد لتمويل مشروعات البنية الأساسية والتنمية المستدامة الذى انبثق من مجموعة البريكس‮. ‬وسوف‮ ‬يكون مقر مركزه الإقليمى الأول فى إفريقيا فى دولة جنوب إفريقيا‮. ‬ويهدف كل من البنكين إلى تقديم بدائل للبنك الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة وبنك التنمية الآسيوى الذى تقوده اليابان‮. ‬علينا ألا نعيد تجربة الاستثمار السابقة وأن نتفادى الأخطاء التى وقعنا فيها حيث كانت السياسات الحكومية تدعم استخدام رأس المال والتكنولوجيا المتقدمة فجرينا وراء التكنولوجيا المتقدمة عبر موردين ومقاولين ومن قبل الاستشاريين ووكالات المعونة وكان هناك افتقار واضح للمعلومات عن البدائل‮. ‬كما أن الجرى وراء مشروعات كبيرة ليس من المزايا المفضلة،‮ ‬فالمؤسسات الصغيرة تنزع إلى استخدام قدر من المال بالنسبة لكل عامل أقل مما تفعله المؤسسات الكبيرة‮. ‬ليس فقط بسبب الاختلافات فى تنوع المنتجات المصنوعة وإنما أيضا بسبب الاختلافات فى التكنولوجيا المستخدمة لصناعة نفس المنتج‮ . ‬وبالمزج بين رأس المال ومزيد من العمل تستطيع المشروعات الصغيرة أيضا أن تستخدم رأس المال بصورة أكثر إنتاجا‮. ‬كما أن المؤسسات الصغيرة تستخدم الموارد التى لولاها لما تم جذبها لعملية التنمية‮. ‬وأن المؤسسات الصغيرة بالإضافة إلى فائدتها كمشتل لموهبة تنظيم المشروعات الصغيرة،‮ ‬تحتل مكانة نافعة بدرجة كبيرة فى الهيكل الصناعي‮. ‬والنقطة الأهم عند اختيار مشروع معين هو الالتجاء إلى الاستشاريين المتخصصين،‮ ‬للأسف أصاب هذا البند كثير من السهام المغرضة التى نالت منه مع أنه أهم عنصر فى نجاح أو فشل المشروع‮ . ‬وثمة ضرب من ضروب الاستمرار‮ ‬ينبغى عدم التشجيع عليه،‮ ‬ألا وهو استخدام مؤسسات استشارية تكون جزءا من أنشطة تجارية أخرى أو تابعة لها مثل شركات التشييد أو منتجى المعدات‮. ‬وينبغي،‮ ‬كلما كان ذلك ممكنا إسناد هذه المهام إلى عاملين محليين‮. ‬فخلق وتعزيز قدرة محلية على تصور المشروعات وتصميمها وتنفيذها على أساس سليم هو جزء مهم من عملية التنمية وبدون هذه القدرة،‮ ‬فإن البلد قد لا‮ ‬يسيطر على تنميته الاقتصادية والاجتماعية سيطرة تامة‮.‬