كاترين هيلي
“لا توجد حنطة سوداء”، هذا ما تقوله علامة مكتوبة بخط اليد تتدلى من على رف فارغ في سوق دكسي في موروم، وهي بلدة تبعد 300 كيلو متر شرقي موسكو. في سوبر ماركت آخر قريب، كانت الحنطة السوداء متاحة، لكن بثمن يبلغ 90 روبل (دولارين) للكيلوجرام الواحد – أي أكثر من ضعف ما كان عليه قبل نحو شهر.
الأنباء عن ضعف المحصول أثارت الذعر وتدافع الناس لشراء الحنطة السوداء، التي تعتبر العنصر الرئيسي المفضل في روسيا، حيث يتم طهيها على شكل عصيدة للإفطار، وتؤكل باعتبارها طبقا جانبيا مع اللحوم وتوضع في الحساء وتستخدم لإعداد الفطائر.
النقص المفاجئ دفع عددا من أكبر شركات البقالة في روسيا لفرض نظام حصص. وقال سوبر ماركت لينتا في سان بطرسبرج للعملاء إنه يمكنهم شراء ما لا يزيد على خمس عبوات في اليوم، لمنع التداول في السوق السوداء. وقالت دائرة الإحصاءات الاتحادية الأسبوع الماضي إن سعر الحنطة السوداء قفز بنسبة 27.5 في المائة منذ بداية الشهر.
لا يوجد أي تهديد يوحي بضائقة شديدة – رفوف المتاجر في موسكو لا تزال مليئة بمجموعة متنوعة من الأطعمة، لكن نقص الحنطة السوداء جعل الروس العاديين يشعرون بأن المشكلات الاقتصادية المتزايدة في البلاد بدأت في الوصول إلى الجميع – وليس فقط النخب في موسكو الذين حرموا من الجبن الفرنسي وغيره من الأطعمة الغربية التي تم حظرها في آب (أغسطس).
يقول فيودور زايتسيف، وهو طالب ولد في عام 1998، بعد فترة طويلة من انهيار الاتحاد السوفياتي وقبل سنتين من تولي الرئيس فلاديمير بوتين السلطة: “هذه تقريبا مثل القصص التي كانت ترويها جدتي عن الاتحاد السوفياتي: رفوف فارغة واصطفاف في طوابير لشراء مواد البقالة”. خلال طفولة فيودور، ترأس بوتين الدولة خلال طفرة اقتصادية كان يغذيها النفط، تركت معظم الروس أفضل حالا من أي وقت مضى.
قليلون في روسيا يمكن أن يشككوا في فكرة أن الأمور أفضل اليوم، حتى مع تراجع أسعار النفط، والعقوبات بسبب أزمة أوكرانيا، والمشكلات الاقتصادية الهيكلية التي تهدد بدفع البلاد إلى الركود. لكن مع أن الروس يتعاملون مع هذه المشكلات إلى حد كبير بهدوء، إلا أن الانخفاض الحاد في قيمة الروبل خلال الشهر الماضي غرس شعورا ملموسا من القلق.
وقال مسؤول كبير في وزارة الزراعة: “علينا أن نكون في حالة تأهب لكون هذا السلوك ينبع من خوف حقيقي جدا. الناس يحاولون تكديس المؤن، لأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان”. وأضاف: “تقلب أسعار العملات هو المسؤول عن هذا. الناس يشعرون بالقلق من أن الأشياء ستزداد تكلفتها غدا، لذلك من الأفضل الشراء اليوم، والواقع أنهم ليسوا على خطأ تماما في هذا الافتراض”.
وبحسب أليكسي أوليوكاييف، وزير الاقتصاد، تسارع التضخم إلى أكثر من 8 في المائة، ومن المتوقع أن يصل إلى 9 في المائة بحلول نهاية العام، ما يعد تجاوزا كبيرا لرقم البنك المركزي المستهدف، البالغ 5 في المائة. ووفقا لمسودة الوزير حول التوقعات الاقتصادية الجديدة، المقرر عرضها الشهر المقبل، فإن التراجع الحاد في سعر الروبل يدفع التضخم ويسهم بأربع نقاط مئوية.
ويواصل الروبل ضعفه التدريجي منذ شباط (فبراير) 2013. وهذا الصيف ازدادت وتيرة الانخفاض مع أزمة أوكرانيا وبدأت أسعار النفط المنخفضة تؤذي الاقتصاد، وفقدت العملة 40 في المائة من قيمتها مقابل الدولار هذا العام. لكن على مدى الشهر الماضي هددت الأمور بالخروج عن السيطرة، مع انخفاض العملة بنسبة 12 في المائة مقابل الدولار في أسبوع واحد، بين 30 تشرين الأول (أكتوبر) والسادس من تشرين الثاني (نوفمبر).
ويبدو أن إجراءات البنك المركزي لتعويم الروبل والحد من القروض قصيرة الأجل للمصارف الروسية نجحت في الحد من المضاربة وإنهاء التقلبات الحادة. لكن الخبراء يحذرون من أن الضرر حدث بالفعل. وكتب أليكسي كودرين، وزير المالية السابق، الأسبوع الماضي: “إن إعادة الفرص السابقة فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي والثقة بالروبل ستأخذ من سبع إلى عشر سنوات من نمونا الاقتصادي”.
وفي حين أن نمو الناتج المحلي الإجمالي يحوم فوق الصفر، إلا أن ضعف الروبل المستمر يمكن إلى حد كبير أن يدفع الاقتصاد نحو الركود. ويقول فلاديمير تيخوميروف، كبير الاقتصاديين في BCS للوساطة المالية في موسكو: “نتوقع أن يستمر انخفاض قيمة الروبل، على الرغم من أن وتيرة تخفيض قيمة العملة هذه من المحتمل أن تكون أكثر اعتدالا بكثير من تلك التي شوهدت في الآونة الأخيرة”. وتحدث عن “صورة قاتمة كثيرا للمسار الاقتصادي المستقبلي في روسيا”، متوقعا أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 0.7 في المائة في العام المقبل.
وترى BCS أن الاستثمارات الثابتة، التي طالما كانت عبئا على النمو، تغوص بشكل حاد بنسبة 5 في المائة هذا العام و9 في المائة في عام 2015، ويتوقع أن تبدأ مبيعات التجزئة، التي لا تزال تنمو، في الانخفاض العام المقبل في الوقت الذي يتراجع فيه الدخل الحقيقي.
والتأخير في الاستثمار واضح في كل مكان. فعندما سلمت ستادلر، شركة صناعة عربات السكك الحديدية السويسرية، أول 25 قطارا جديدا يتألف من طابقين إلى شركة إيرو إكسبرس الأسبوع الماضي، قالت الشركة إنها ستعاني من أجل تلبية مدفوعات طلب الشراء البالغة 380 مليون يورو.
وقال أليكسي كريفوروتشكو، الرئيس التنفيذي لإيرو إكسبرس، التي تدير قطارات تربط مطارات موسكو بالمدينة: “لدينا قروض بالروبل، لكن الآن هناك مشكلة”. وبحسب مصادر مقربة من الشركتين، كان من المتوقع لإيرو إكسبريس أن تتراجع عن خيار شراء مزيد من القطارات.
والمشروع الذي يكلف ملياري دولار، الخاص بمد خط مترو جديد في العاصمة، معلق الآن أيضا. وكان من المقرر أن يبدأ البناء في العام المقبل، لكنّ الشركاء الصينيين، بما في ذلك مؤسسة بناء السكك الحديدية الصينية المملوكة للدولة، طالبوا بإعادة التفاوض بسبب انخفاض قيمة الروبل التي تجعل الواردات أكثر تكلفة بكثير.
وتؤكد الشركات الأجنبية الأخرى أن الروبل الضعيف أصبح تحديا كبيرا. وتقول بلفنجر، المجموعة الهندسية الألمانية، إنه في حين يتم إعاقة الخدمات المقدمة داخل روسيا، تعاني أعمالها الخاصة ببناء محطات جديدة.
ويقول يورج سيرزيسكو، المدير الإداري في بلفنجر في روسيا: “المكان الذي نشعر فيه بأكبر قدر من المعاناة هو قسم الهندسة لدينا، لأنه لم يعد هناك المزيد من المشاريع الاستثمارية الأجنبية المباشرة الجديدة”.
يينس بولمان، نائب رئيس الغرفة التجارية الألمانية في روسيا، يقول إنه في المزيج المؤلف من الركود الاقتصادي والعقوبات وضعف العملة يعد “تأثير انخفاض قيمة الروبل هو الأسوأ”.
ولا يوجد مكان الأمور فيه كارثية مثل قطاع السياحة. فقد بدأت الأسر بربط أحزمتها ورفع الروبل الأضعف تكلفة للسفر إلى الخارج. وشهدت أكبر خمس شركات للسياحة في البلاد، تمثل 60 في المائة من سوق الرحلات المنظمة، فشلا في نشاطها هذا العام.
واستخدمت شركة إيروفلوت للطيران 79 مليون دولار من الاحتياطيات لتغطية حالات إفلاس المرشدين السياحيين، ما يمحو كل أرباح النصف الأول من العام. وعلى الرغم من تلقي شركة الطيران نحو نصف عائداتها بالعملات الأجنبية، يقول محللون إنها لا تستفيد من انخفاض قيمة الروبل بالطريقة التي تستفيد بها شركات التصدير. وتقول إيلينا ساخنوفا، المحللة في كابيتال VTB: “من دون تخفيض الرسوم والأسعار قد تحلق الطائرات نصف فارغة”.
وبالنسبة لصناعتي الطاقة والسلع، العمود الفقري لاقتصاد روسيا، سقوط الروبل سيف ذو حدين. فمن ناحية محقت العملة تقريبا أرباح بعض أكبر الشركات الروسية من خلال إجبارها على رفع قيمة الديون المقومة بالدولار. وأبلغت روسنفت، مجموعة النفط الحكومية، عن انخفاض بنسبة 99 في المائة في صافي الربح في الربع الثالث، بسبب خسارة محاسبية تقدر بحدود 95 مليار روبل تتعلق بالتعاملات بالنقد الأجنبي. وتحدثت شركة جازبروم التي تحتكر تصدير الغاز الحكومي، عن خسارة تبلغ 119 مليار روبل بسبب تحركات العملة الأجنبية.
وعلى الرغم من هذه الخسائر المحاسبية، أدى سقوط الروبل من ناحية أخرى إلى إغاثة مرحب بها في قطاع الموارد، حيث يتم تقويم عائدات التصدير أساسا بالدولار في حين أن التكاليف تقوم إلى حد كبير بالروبل. مثلا، روسال، أكبر منتج للألمنيوم في العالم، أبلغت عن أول حركة نقد حر موجبة منذ أكثر من عامين.
وذهب ضعف الروبل شوطا طويلا في تعويض الانخفاض الحاد بالقدر نفسه في أسعار النفط في الأشهر الأخيرة، حيث يلعب دور صمام الأمان الذي ساعد على حماية جزء من قطاع الشركات، فضلا عن الميزانية الروسية من انكماش مفاجئ في الإيرادات.
ويقول إلكين كاريملي، من كريدي سويس: “العلاقة بين أسعار النفط وسعر الروبل والتحوط التشغيلي الناتج من القطاع، هي أكبر ميزة لشركات النفط والغاز الروسية على نظيراتها الدولية”.
وواحد من أكبر الهموم الخطيرة على المدى الطويل بالنسبة للشركات الروسية هو أن انخفاض الروبل يفاقم الضغوط لإعادة تمويل الديون بالعملة الأجنبية، بعدما عملت العقوبات الغربية إلى حد كبير على منع الحصول على تمويل جديد بالدولار واليورو. واعتبارا من أيلول (سبتمبر) الماضي، كان لدى المصارف والشركات الروسية 614 مليار دولار من الديون الخارجية، وفقا لإحصاءات البنك المركزي.
والأمور معقدة بصورة خاصة بالنسبة للقطاع المصرفي الذي صُدَّت في وجهه إلى حد كبير أبواب التمويل الأجنبي الجديد، ولديه احتياطيات قليلة من مكاسب العملات الأجنبية. وتتوقع وكالة ستاندرد أند بورز للتقييم الائتماني أنه في حين أن القطاع لديه ما يكفي من الأصول السائلة لخدمة الديون الحالية بالعملات الأجنبية، إلا أن الارتفاع الحاد في تكاليف التمويل والائتمان سيلقي بثقله على الأرباح ويؤذي كفايتها الرأسمالية خلال السنة المقبلة وما بعد ذلك.
بنك “في تي بي” المملوك للدولة، وهو ثاني أكبر المصارف في روسيا، أبلغ عن تراجع بنسبة 90 في المائة في صافي الأرباح عن الربع الثالث، لأنه اضطر إلى زيادة المخصصات من أجل الأزمة في أوكرانيا، وكذلك بسبب تدهور نوعية القروض داخل روسيا.
إن البحث عن الأموال النادرة بالعملات الأجنبية يدفع بالمصارف الروسية للتنافس على ودائع الدولارات من الشركات. وبحسب أحد المصرفيين في موسكو: “المصارف تعرض أسعار فائدة بين 4.5 و6 في المائة”، مقارنة بنسبة 1 في المائة تعرضها المصارف الأجنبية على عملائها من الشركات بخصوص ودائع الدولار.
وهناك قطاعات أخرى معرضة للمشكلات. شركتا الاتصالات فيمبل كوم VimpelCom وروستيل كوم يرجح لهما أن تحتاجا إلى أموال خارجية لتسديد قروض حالية، وفقا لشركة رينيسانس كابيتال. وربما تواجه شركات صناعة السيارات مشكلة مماثلة. كما أن سيستيما، التكتل المدرج في لندن الذي يديره الثري فلاديمير ييفتوشينكوف، الذي اعتقل في الفترة الأخيرة، “يرجح له أن يضطر إلى الاقتراض من أجل سداد الديون”، كما تقول رينيسانس.
وحتى الآن تحاول موسكو إخفاء هذه الصعوبات عن الأنظار. فعلى موقع إلكتروني أطلق أخيرا من قبل وكالة الأنباء الرسمية إيتار تاس، ويتحدث عن إنجازات بوتين، يظهر الاقتصاد الروسي بالأبيض والأسود في التسعينيات لكنه يتحول إلى لون رائع بعد وصول بوتين.
وفي ترديد لأصداء هذه الفكرة، قال فياتشيسلاف فولودين، نائب كبير موظفي الرئيس، في الشهر الماضي، إن الروس يفهمون أنه “لا توجد روسيا دون بوتين”.
لكن هناك فئة ضمن منتقدي الرئيس تعتقد أن الواقع الاقتصادي يمكن أن يصبح أكثر أهمية بالنسبة للروس من مشاعر الاعتزاز التي يزرعها بوتين في نفوسهم. ومن بين النكات التي تتناقلها الألسن، هناك نكتة تتلاعب بالألفاظ على طريقة التعبير الذي استخدمه فولودين: “لا توجد روسيا دون الحنطة السوداء”.