غريتا صعب
لم تعد منظمة الدول المصدّرة للنفط (OPEC) فاعلة كما كانت في الأعوام السابقة من القرن الماضي. ولم تعد لها القدرة على تنظيم العرض والطلب في أسعار النفط الخام وقد تكون الأمور تبدلت ولا سيما أنّ مصالح دولها باتت مختلفة تماماً الواحدة عن الأخرى.
ظهر هذا الوضع جلياً بعد اجتماع وزراء النفط في الدول الأعضاء للمنظمة ولم يستطيعوا التوصل إلى اتفاق في ما يختص بانخفاض أسعار النفط الخام. ومن الناحية التاريخية وعندما يتعلق الأمر بتغيير مستويات العرض كانت المملكة السعودية هي الرائد في هذا المجال.
أما الآن، فقد أيّدت السعودية، وقبل بدء الاجتماع، الوضع الراهن (status – quo) ما يعني أنّ العرض سيبقى ولفترة غير محددة على ما هو عليه. على أثر هذا القرار شاهدنا أسعار الخام والبرنت تنخفض بشكل يعتبر أدنى مستوى لها في أربع سنوات.
ويقول بعض المحللين إنّ الدول المصدرة للنفط ولا سيما السعودية لا تعارض الحفاظ على الإنتاج عند مستوى 30 مليون برميل يومياً رغم الضغوط التي مارسها بعض أعضائها خصوصاً فنزويلا التي دعت إلى خفض الإنتاج في محاولة منها لرفع الأسعار.
كذلك بالنسبة لإيران التي تواجه كفنزويلا وضعاً مالياً حرِجاً ويتدهور تلقائياً مع انخفاض سعر البرميل وذلك يتعارض مع موقف دول الخليج التي هي في وضع جيّد ولا سيما أنّ ميزانياتها تتحمل أسعاراً أرخص مما هي عليه الآن.
لذلك وجب القول إنّ منظمة الدول المصدرة للنفط لم تعد كالسابق كذلك فإنّ الخيارات السياسية والمالية والجيوبوليتيكية تختلف بين هذه الدول.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن قد يكون ما هو السبب في انخفاض سعر الخام الأسود بنسبة 30 بالمئة في خمسة أشهر.
قد يكون الجواب الاقتصادي البديهي هو أنّ العرض يفوق الطلب وهذا أمر منطقي إذا ما تطلّعنا إلى الاقتصاد العالمي ونموّه البطيء في اوروبا واليابان وحتى في الصين وغيرها من دول آسيا ما يعني أنّ الطلب على النفط الخام تراجع، وسوف يبقى كذلك، أقله في المستقبل القريب، ويعني أيضاً أنّ أسعار النفط ستكون الى تراجع. ومن المعروف أنّ الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، وقد زادت انتاجها بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
وضخّت ما يعادل 8،6 ملايين برميل في اليوم في شهر آب من السنة الحالية مقابل 5،4 ملايين برميل في اليوم عام 2010، حسب معلومات ادارة الطاقة الأميركية (EIA). وقد اعتبرت أنّ انتاج البلاد الآن هو في أعلى مستوى له منذ 1986. واليوم تمثل أميركا وحدها 10 بالمئة من الانتاج العالمي.
قد يعود سبب ارتفاع اسعار النفط، استثمار القطاع الخاص في شركات الطاقة في تقنيات حديثة لاستخراج النفط (الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي).
وقد انتشرت هذه الصناعة في الولايات المتحدة، وساعدت في إنعاش بعض الولايات بشكل جذري ولا سيما نورث داكوتا وتكساس وبنسلفانيا. أضف إلى ذلك أنّ بعض الدول من منتجي النفط مثل ليبيا والعراق أعاد انتاج كميات كبيرة في السنوات الأخيرة بعد أن خفت نسبياً الاضطرابات السياسية والعسكرية. كذلك استغلت كندا مساحات شاسعة في «البرتا» وزادت انتاجها.
وعلى ما يبدو فإنّ توقعات EIA الانتاجية للسنة المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية هي على تحسّن. ويعتقد بعض المحللين أنّ الأسعار ستبقى بين 75 إلى 80 دولاراً، علماً أنّ البعض يقول إنها قد تنخفض الى 60 دولاراً للبرميل. لذلك قد تكون التطورات التكنولوجية لها تأثير كبير على العرض كما لها التأثير نفسه على الطلب من خلال الاقتصاد في استهلاك الوقود للسيارات والشاحنات وتخفيف الحاجة إلى النفط في أكبر دولة مستهلكة في العالم.
أما من حيث الطلب فقد سبق وذكرنا أنّ المعطيات الاقتصادية العالمية والتباطؤ في النموّ ساعد إلى حدٍّ كبير في تخفيف الطلب على النفط وحسب التقديرات الدولية العالم في مرحلة ركود ونموّ متواضع ما يعني أنّ الطلب على النفط لن يتحسن في المستقبل القريب. لذلك تصبح المعادلة واضحة زيادة في العرض مقابل نقص في الطلب يتسبب منطقياً بضغوط واضحة على الأسعار يجعلها تتراجع بهذه النسب والتي تبقى نسب كبيرة اذا ما قارنا مدى تراجع الأسعار في الفترة القصيرة التي تراجعت فيها.
لذلك قد تكون فوائد هذا التراجع في أسعار النفط كبيرة بالنسبة للدول المستوردة خصوصاً بعض الدول النامية مثل الهند واندونيسيا وهذه الأخيرة سارعت إلى الغاء الدعم على البنزين ويتوقع بعض الاقتصاديين نوعاً من الانتعاش الاقتصادي العالمي نتيجة هذا النفط الرخيص.
ويقدر ومع بانخفاض 30 دولاراً في سعر برميل النفط أن يحرّر حوالى 400 مليار دولار من صادرات النفط إلى المستوردين خلال عام ما يعني ومن الناحية النظرية توفير الموارد في ميزانيات الأسر المعيشية وتحويلها إلى زيادة من الأنفاق ما يؤدي الى تعزيز النموّ علماً أنه يشكل ضغطاً على الأسعار في الدول التي تعاني انخفاض التضخم ما يصعّب على الحكومات التعامل مع مشكلاتها الاقتصادية واوروبا خير دليل على ذلك.
والوضع يختلف مع الدول التي تهيمن عليها الصادرات النفطية ولا تحتوي على تنوع واسع في اقتصادها وروسيا وفنزويلا خير دليل على ذلك اذ أن الاقتصاد الروسي بدأ يعاني من تراجع في نموه وانخفاض في أسعار عملته اذ ان الطاقة تشكل 70 في المائة من مجموع الصادرات وأكثر من نصف ايرادات الميزانية يأتي من النفط والغاز ويبقى الرابح الأكبر في هذا المشهد الولايات المتحدة الأميركية والتي استطاعت تعزيز مكانتها الإنتاجية حيث أصبحت أكثر استقلالية وأعطتها هيبه سياسية واضحة في المفاوضات الدولية سواء مع ايران حول برنامجها النووي أو مع روسيا بشأن نواياها في أوكرانيا.
كذلك ارتفاع انتاج الطاقة في الولايات المتحدة الأميركية يساعد على تعزيز اقتصادها لاسيما بعد الأذى الذي لحق بها بسبب الأزمة المالية العالمية.
المستفيد الثاني يعود بالواقع لثاني أكبر اقتصاد في العالم الصين والتي تعتمد وبنسبة 60 بالمئة تقريباً على النفط الخام المستورد ما يساعد في بناء احتياطاتها الاستراتيجية ويعطيها دفعاً في علاقاتها مع روسيا في مجال الطاقة (قد وقعت الدولتان على 400 بليون دولار اتفاقية في مجال تأمين الطاقة للصين).
هذه هي الصورة اليوم وقد يكون من الصعب التكهن في أسعار النفط خصوصاً أنّ توقعات آب الحالي لسعره اليوم كانت 100 دولار للبرميل ما يعني أنّ تغيّرات حصلت قد تكون أبعد من عرض وطلب وقد تكون اقتصادية وسياسية بحته.
والواضح لغايته أنّ دول المنظمة (OPEC) أظهرت بوادر انقسام وبعضها ذهب أبعد من ذلك، إلى اتهام السعودية بأتباع هذه السياسة (Status-quo) فقط لإلحاق الضرر ببعض الدول التي تتعارض وسياساتها الخارجية.
وفي أيّ حال فإنّ تأثير اوبك في السوق انخفض منذ سبعينات القرن الماضي عندما كانت تمثل حوالى 50 بالمئة من امدادات النفط العالمية والتي كانت وحسب أحمد ذكي وزير النفط السعودي وأبرز شخصيات اوبك بين العامين 62-86 والذي ذكر في العام 1970 إن المنظمة توجه الاقتصاد اعالم بينما الوضع يختلف اليوم تماماً اذ ان اهميتها لم تعد كالسابق لا من ناحية الانتاج ولا من الناحية الاقتصادية والسياسية على السواء.