Site icon IMLebanon

قطاع الجلود والأحذية: البضاعة الصينية تفترس السوق والمعامل تُعدّ على الأصابع

ShoesIndustry
باسكال صوما

من يراجع صور بيروت والقرى اللبنانية القديمة، تخطر في باله عبارة وحيدة «سقا الله». فقبل سنوات غير بعيدة كان لبنان واحداً من البلدان التي يحسب لها حساب في الصناعة والتجارة والقطاعات الإنتاجية. اليوم الصورة قاتمة، فمعظم الصناعات تعاني أزمات متلاحقة، فيما بعض الصناعات الحرفية انقرض كلياً.
اليوم تفتح «السفير» صفحة قطاع الجلود والأحذية، مستعيدةً مع صناعيين وعمال حنين تلك الأيام، سائلةً عن مصير هذه الصناعة التي كان يعتاش منها أكثر من 35 ألف لبناني (العمال مع عائلاتهم)، وكانت تساهم بـ8 في المئة من الناتج المحلّي.
كانت مصانع الأحذية لا تقل عن 1200 مصنع إضافةً إلى مئات مصانع الجلود والحقائب، إنما أبت الحرب الأهلية سوى أن تطبع سوادها في قلب هذه الصناعة، وأتت بعدها اتفاقيات رفع الرسوم الجمركية، وكانت النتيجة أنه لم يبقَ اليوم سوى حوالي 200 مصنع للأحذية، فيما معامل الجلود والحقائب تعدّ على أصابع اليد.
قصص حنين
يقول سمير الذي ما زال يصنع الأحذية بمساعدة زوجته في أحد أحياء برج حمود القديمة: «كأنّ هذه المهنة تختتم بالشمع الأحمر سنةً بعد سنة، فلا دم جديد يرفدها، بل يكافح الصناعيون القدامى وحدهم للحفاظ على ما تبقى من هذا الإرث، ولتربية أولادهم وتأمين لقمة العيش». ويشير إلى أنه «ما زال يحاول تسويق الأحذية اللبنانية في الأسواق على الرغم من المنافسة الصينية والاندونيسية والهندية وغيرها»، مؤكّداً أن «الحذاء اللبناني جيّد جداً، لكنه يتعرّض لأسوأ ما يمكن من الظلم والاهمال».
يغصّ أبو أحمد السبعينيّ عند سؤاله عن مهنته وما فعلت بها الظروف، ويقول عبر «السفير»: «لقد دمّروا هذه الصناعة، تركوها رهينة السوق المفتوحة، فدخل الحذاء الصيني إلى أسواقنا واجتاح كل الآمال».
يملك أبو أحمد ورشة صناعية صغيرة في حي ماضي في الضاحية الجنوبية إلى جانب زملائه أيضاً. ويضيف: «مصانعنا الكبيرة التي كانت تؤمن فرص العمل للمئات لا بل الآلاف من الشباب، تحوّلت الآن إلى دكاكين صغيرة، نحاول فيها أن ندافع عن الصناعة اللبنانية وأن نسوّق الحذاء اللبناني قدر المستطاع»، مضيفا: «الحكومات التي تلت الحرب الأهلية لم تفكّر بمصلحة الصناعة اللبنانية، تركتها رهينة الإهمال، والدليل أنّ معظم المصانع الكبيرة أقفلت الآن».
ويشير إلى أنّه «ما زال يجاهد في هذه المهنة، لأنه يحبّها بالدرجة الأولى ولأنه ورثها عن أبيه ولا يعرف أي مهنة سواها، لافتاً الانتباه إلى أنّ «العديد من أصدقائه الذين كانوا يمارسون هذه المهنة تركوها وسافروا أو توجّهوا الى أعمالٍ أخرى».
كثيرون مثل أبو أحمد، حتى يدرك المار في حيّ ماضي أنّ نكبةً واحدة أصابت كل هؤلاء الصناعيين، إذ باتت ملامحهم متشابهة تماماً كقصصهم. بعيداً عن حيّ ماضي، تتركّز مصانع الأحذية وورش العمل في الضاحية الجنوبية وبرج حمود وبعض القرى. واليوم لا يتعدّى عدد العاملين في هذه الصناعة 3000 عامل، فيما كان عمال مصانع الأحذية يتجاوزون لـ12000 عامل قبل الحرب، وإذا أضفنا عمال المدابغ آنذاك، يصبح العدد 18000 عامل.
قبل 30 عاماً…
يخبر نقيب عمال مصانع الأحذية والجلود رضا السعد أنّه «في العام 1974 وقبلها كانت جودة الحذاء اللبناني تضاهي الصناعة الأوروبية، وكان قادراً على المنافسة، وكانت المصانع منتشرة في مناطق عديدة وكانت تسهم بـ8 في المئة من الناتج المحلي».
وبحسرة يتابع: «لكنّ الحرب أثّرت كثيراً في هذه الصناعة، خصوصاً الفرز الطائفي بحيث كانت معظم المصانع في المناطق الشرقية، فيما اليد العاملة معظمها جنوبية، وكانت المواصلات شبه مستحيلة، فصرنا نرى عمالاً بلا مصانع ومصانع بلا عمال». ويوضح أن «حرب السنتين كانت أقسى ما مرّت به هذه الصناعة، قبل أن تلملم جراحها وتزدهر من جديد في الثمانينيات حيث كانت تصدّر كميات كبيرة من الأحذية الى دول الخليج»، مشيراً إلى أن «بنت جبيل كانت تستحوذ على قسم كبير من مصانع الاحذية والجلود آنذاك».
ويضيف: «بعد الحرب وبعد كل ما عانيناه، أتى اتفاق الطائف وأتت تدابير رفع الرسوم الجمركية عن البضاعة المستوردة، ما أدى إلى عملية استيراد عشوائي، سقط ضحيتها مئات المعامل التي أقفلت أبوابها، بعدما منيت بخسائر كبيرة مع دخول البضاعة الصينية بأسعار متدنية، وتحوّل معظم ما بقي من المعامل الى ورش صغيرة».
ويسأل السعد: «هل من المنصف أن تدخل البضائع الأجنبية الى بلدنا من دون رسوم منصفة، فيما المعامل المحلية تفتقد الدعم وسياسات التسويق والتشجيع؟»، مشيراً إلى أن «النقابة طالبت بفرض رسم جمركي نوعي على كل حذاء وليس على أساس النسبة، ونظمت اعتصامات للمطالبة بذلك، لكنّ أحداً لم يستجب لمطالبنا».
ويتطرّق السعد إلى وضع عمال مصانع الأحذية مع «بدعة التعاقد الوظيفي التي حرمتهم من ابسط حقوقهم ولم يقف أحدٌ إلى جانبهم، حتى حين تعرّضوا للصرف العشوائي»، مشيراً إلى أن «الدولة في التسعينيات باتت توجّهاتها نحو دعم قطاع الخدمات، فأهملت الصناعات لا سيما الحرفية منها التي تسير نحو الانقراض».
«لم يبقَ ما يُحكى»
يباشر نقيب عمال مصانع الأحذية السابق فوزي بو مجاهد الحديث بجملة «لم يبقَ ما يُحكى».
ثمّ يستدرك حسرته قائلاً: «لقد تغيّرت وجهة هذا البلد، بات استهلاكياً بحتاً، وبات الصناعيون مضطهدين، لا أحد يدعمهم ولا أحد ينظر الى مطالبهم، لا بل يتعرّضون للطعنات من الحكومات والمسؤولين»، لافتاً الانتباه إلى أنه «منذ اتفاق الطائف والدولة تعتمد نهجاً مدمّراً للصناعة».
ويرى أن «صناعة الأحذية والجلود في لبنان كانت مزدهرة وواعدة وكانت مرشّحة للوصول إلى مكان نحلم به، لو اننا حصلنا على الدعم المناسب ولم يترك الحذاء اللبناني تحت رحمة المنافسة الشرسة وهو غير قادر على المنافسة». ويضيف: «المواد الأولية غالية وفواتير الكهرباء غالية ولم تأبه أي حكومة لوضعنا الصعب، فكانت النتيجة تراجع هذا القطاع بشكلٍ كارثيّ، تماماً كصناعات أخرى عديدة، كتبت السياسات نهايتها». ويشير إلى أنّ «الرسوم الجمركية غير مراقبة، وكنا دوماً نطالب بضبط الجمارك لعلّ ذلك يعيد الينا بعض حقّنا، إنما أحد لم يشعر بمأساتنا».