حيدر الحسيني
«ما كل ما يلمع ذهباً«! المثل الشائع على نطاق واسع بشتى اللغات المعاصرة، أصله روماني ضارب في التاريخ، ترقى صيغته الحالية إلى عام 1553، وينطوي في واحدة من دلالاته التشبيهية على القيمة التي اكتسبها المعدن الأصفر على مرّ العصور، إلى أن بات منذ عقود، ولا يزال، «الملاذ الآمن» أثناء الأزمات للكثير من المستثمرين في الأسواق العالمية، تحوّطاً من تقلبات العملات الورقية والأسهم والسندات، رغم التباينات السعرية الحادة التي تصيب هذا المعدن بذاته من حين إلى آخر.
لم يترك الذهب حضارةً أوثقافةً أو اقتصاداً إلا وكان غازياً لعقول وخزائن حكامها وأغنيائها وفقرائها، بصفته (إلى جانب الأرض/ العقارات) رمزاً أساسياً من رموز اكتناز الثروة وحُب التملّك المتجذر في نفس الإنسان. ويمكن القول إن مفهومه تكرّس أكثر بدعم من كتب الأديان الأساسية، حيث ورد ذكره في القرآن الكريم 8 مرات، ولم يتكرر ذكر أي معدن آخر ولا امتاز وصفه في أسفار «العهد القديم«، كما هي حال الذهب. حتى أن النفط الذي يشكّل رافعةً للنهضة الصناعية وارتقاء الحضارة الإنسانية إلى ما وصلت إليه اليوم، لم يجد الواصفون أبلغ من تعبير «الذهب الأسود» (Black gold) لامتداحه، بعدما كانت التسمية متداولة قبل اكتشافه على نطاق أضيق لوصف الفحم الحجري.
ثقة راسخة رغم المطبّات
لافت في سيرة الذهب، أنه استُخدم قديماً (إلى جانب الفضة) كعملة للتبادل التجاري، إضافةً إلى كونه معدناً يمكن اكتنازه في صناديق الحلي، قبل أن يتحول في عصرنا هذا إلى سلعة تُشرى وتُباع في البورصات الدولية وأسواق الصاغة الفاخرة والشعبية، وتختزنها المصارف المركزية دعماً للعملات الوطنية وتعزيزاً لثقة الشركاء التجاريين ومودعي المصارف باقتصادات الدول.
لكن الثقة الراسخة بالذهب التي تكوّنت عند عامة الناس، كما عند محترفي الاستثمار والتداول في أسواق المال والأسواق التجارية، خرقت سكينتها، بطبيعة الحال، اضطرابات حادة تصيب هذا المعدن الثمين في الصميم، كما غيره من الأدوات الاستثمارية.
من ذلك أن الأونصة (أو الأوقية)، التي يعادل وزنها 31,10 غراماً تقريباً، بلغت ذروتها السعرية تاريخياً في 2 أيلول عام 2011 عندما سجّلت 1920 دولاراً أميركياً أثناء التعاملات في لندن، كما بلغت أعلى مستوى في نيويورك في 22 آب عند 1889,7 دولاراً. ثم ما لبثت أن تراجعت تدريجاً منذ ذلك الحين، وصولاً إلى نحو 1204 دولارات ظهر الجمعة الماضي.
يُستخلص من ذلك أن الأونصة خسرت خلال 3 سنوات 716 دولاراً أو أكثر من 37 في المئة من قيمتها، إذا ما قورن السعر الحالي بالسعر الأعلى الذي شهدته بورصة لندن (1920 دولاراً). كما خسر كيلو الذهب في المدة عينها 22 ألفاً و55 دولاراً تقريباً، بهبوط قيمته السوقية من 60 ألفاً و755,27 دولاراً (سعر ذروة نيويورك في 22 آب 2011) إلى نحو 38 ألفاً و700 دولار ظهر الجمعة المنصرم.
«الإرباك» سيّد التحليل
رغم التقلبات الآنفة الذكر، وُصِفَ الذهب بأنه الملاذ الآمن الذي يلتجئ إليه المستثمرون الواثقون بقيمته في أوقات الشدة واضمحلال الثقة بأسواق المال العالمية، والتي تربط الذهب فيها علاقة جدلية بالعملات والأسهم والنفط، وهو ما يضع المستثمرين أمام خيارات عادةً ما تكون مُعقّدة في ما يتعلق بالوجهة التي من الأفضل أن يوظفوا فيها رساميلهم.
لكن المُحللين المترصّدين لبورصات الأسهم والسندات والعملات والمعادن، ينطلقون عند «فكفكة» حركة التداول المعقدة المرتبطة بالذهب، من جملة معطيات «سوقية» لا يُمكن اعتبارها مبادئ أو قواعد علمية عامة، نظراً لعدم اتخذاها صفة مستدامة في حقبات مختلفة.
في هذا الإطار، يندرج الاعتقاد السائد بأنه كلما ارتفع النفط ترتفع أسعار الذهب، والعكس صحيح. لقد ثبُت هذا الاعتقاد في كثير من المرّات، لكن ليس وفق معادلة منطقية يُمكن التأسيس عليها، وهذا ما يجعل الربط النهائي بين حركة السلعتين أمراً «مُربكاً».
على سبيل المثال، كان متوسط سعر برميل الخام الأوروبي القياسي «برنت» يقفز إلى أعلى مستوياته، مسجلاً 132,72 دولاراً منتصف تموز 2008، بينما كان سعر الأونصة يبلغ 968 دولاراً. وفي حين كانت أونصة الذهب تسجل أعلى مستوى في السوق الأميركية (1889,7 دولاراً) في 22 آب 2011، كان «برنت» بالكاد يتجاوز 78 دولاراً. ثم إن الأونصة بلغت 1262 دولاراً في 5 حزيران 2014، فيما كان «برنت« يُغلق على 108,43 دولارات. والآن، تحديداً في 5 كانون الأول الجاري، حوّمت الأونصة حول 1204 دولارات، مقابل هبوط «برنت» إلى 69,5 دولاراً.
.. والدولار سيّد «الثمين»
لعل الأقرب إلى الارتباط بحركة الذهب هو الدولار الأميركي، الذي غالباً ما يتنافر مؤشره مع مؤشر الذهب. فمع بداية الشهر الفائت، حين بدا واضحاً أن العملة الخضراء اتخذت مساراً تصاعدياً بفضل بوادر انتعاش اقتصاد الولايات المتحدة، بدأت قيمة المعادن الثمينة بالانحسار، إلى أن انحدر سعر الذهب والفضة في 4 تشرين الثاني الماضي لأدنى مستوى في 4 أعوام (1170,75 دولاراً للذهب و15,72 دولاراً للفضة)، بسبب الصعود القوي للدولار وتلقّيه دعماً مهماً من قرار المصرف الياباني المركزي المفاجئ زيادة مشترياته الضخمة من السندات، وهو ما دفع الين للهبوط إلى أدنى مستوى في 7 سنوات أمام العملة الأميركية.
باختصار، لا يمكن لأي محلل أو مستثمر أن يكون مصيباً دائماً لدى قراءته اتجاهات أسواق المال على اختلافها، مهما حاول استشرافها والاستدلال عليها من خلال الربط بين حركة منحنيات مختلف السلع والأوراق المالية المطروحة للتداول، بما فيها الذهب. وإلا فما الذي يُفسّر أرباحاً يحصدها مستثمرون على حساب خسائر يُمنى بها آخرون، مع أنهم يستعينون – عند اتخاذ القرار – بأمهر شركات السمسرة والاستشارات؟
في كل الأحوال، سواء داخل ردهات البورصات أو في الأسواق التجارية العادية، يبقى الذهب معدناً «لامعاً« لا غنى عنه بالنسبة لمعظم المصارف المركزية المتحوّطة من المخاطر، ولكل ثري يُحب المفاخرة والعُجب، كما لكل عروس تتوق للفرح بزينتها يوم زفافها.
لكن المفارقة تكمن في أن كيان هذا المعدن الثمين الذي اهتزّ مراراً، تلقى أقوى ضربة في تاريخه من الولايات المتحدة التي رعت بنفسها وعلى أراضيها سَنّ النظام النقدي العالمي، الذي يُلزم الدول ربط عملاتها بالذهب، في إطار اتفاقية «بريتون وودز» في تموز 1944. إنها تلك الضربة التي تمثلت بإلغاء الرئيس الأميركي ريتشارد نِكسون عام 1973، مبدأ تبديل (أو تغطية) الدولار بالذهب، ليُتوّج الدولار بعد ذلك إلى أداة السيولة الجاهزة الأساسية التي يقوم عليها النظام النقدي العالمي، جاعلاً من الذهب احتياطاً هامشياً رديفاً تكاد الدول تعجز عن الاستفادة منه بسهولة كلما دعت الحاجة.