أنطوان فرح
يُعتبر القطاع المصرفي، واحداً من القطاعات القليلة التي لا تزال تتمتع بالحيوية التي تسمح بالمراهنة عليها لدعم الاقتصاد اللبناني. وتشكل المصارف، الى جانب القوى اللبنانية العاملة في الخارج، نقطة القوة شبه الوحيدة في الاقتصاد الوطني حاليا. لكن للمصارف تحدياتها، وتزداد الضغوط عليها كلما تراجع اداء الاقتصاد، وكلما ارادت الالتزام بالمعايير الدولية المتحركة، والتي تتجه صعودا نحوالمزيد من التشدّد.
بعد صدور نتائج الارباح المصرفية عن الفصول الثلاثة الاولى من العام 2014، بدأ يتضح ان العام سيقفل على نسب أرباح أقل قليلاً من مجموع الأرباح في العام 2013. وهو انخفاض يكاد لا يُذكر في المعدل العام، لكن الامور تتغير عندما تتم دراسة النتائج بالتفصيل.
اذ يتبين ان التراجع لدى المصارف الكبيرة بسيط ونسبته ضئيلة، في حين ان الامور تختلف قليلا لدى المصارف الصغيرة حيث يتبين ان التراجع اكبر، وهو يؤشّر الى صعوبات اضافية يواجهها القطاع بالتزامن مع التراجع الاقتصادي العام.
سبب هذا التفاوت يعود في الدرجة الاولى الى ان المصارف الكبيرة بدأت تعتمد من جديد على ارباحها في الخارج لتعويض التراجع في مستويات الارباح في الداخل، خصوصا بعدما استوعبت الخسائر التي تكبدتها في سوريا، وبعدما تحسنت الاوضاع في بلدان اخرى تتواجد فيها هذه المصارف وفي مقدمها مصر.
الى جانب ذلك، فان حرص البنك المركزي على تطبيق المعايير الدولية في القطاع، يساهم بدوره في تقليص الارباح لدى المصارف الصغيرة غير القادرة على زيادة كلفة التشغيل والحفاظ على مستوى الارباح. وهذا ما جرى في موضوع تطبيق قانون فاتكا الاميركي، والذي كلف المصارف مبالغ لا يستهان بها لكي تتمكن من البدء في تطبيقه والالتزام بمندرجاته.
الى ذلك، تستعد المصارف اليوم للالتزام بمعايير «بازل 3» ، والتي تحتّم زيادة الرساميل والاموال الخاصة لدى المصارف. واذا كانت المصارف الكبيرة قادرة على مواكبة هذه المعايير من خلال اقتطاع قسم من الارباح وتحويله الى الاموال الخاصة للمصرف، فان ضآلة الارباح في المصارف الصغيرة لا تسمح بهذا الترف. وسيكون على المساهمين ضخ الاموال من رساميلهم الخاصة. وهذا الامر لن يكون سهلا في هذه المرحلة التي لا تحقق فيها هذه الفئة من المصارف الارباح التي توازي حجم الرساميل المستثمرة فيها.
الى ذلك، تتعرّض المصارف الى ضغوطات اضافية مصدرها حرص المركزي على حماية القطاع من خلال الالتزام بالمعايير الدولية كافة التي تستجد في عالم المصارف. وهذا ما جرى على سبيل المثال في موضوع القروض الاستهلاكية والشخصية. اذ تجاوزت هذه القروض قياسا بمجموع القروض المصرفية، النسب العالمية المتعارف عليها.
وعمد مصرف لبنان فورا الى اصدار تعميم رفع بموجبه حجم المبلغ المطلوب من المقترض تأمينه للحصول على قرض استهلاكي. ومن شأن هذا الامر خفض الاندفاعة نحو اعطاء هذه القروض، والى حماية اضافية لعدم تعريض الدين لخطر عدم التسديد.
اخيرا، صدر تعميم آخر وضع قواعد جديدة لحجز مؤونات على القروض المشكوك في تحصيلها. واصبح المصرف مُلزماً منذ التأخير في تسديد السند الاول من اي قرض، بحجز مؤونات ترتفع نسبتها تدريجيا كلما تأخر التسديد.
وقد تبيّن ان هذا التعميم مقتبس من الاجراءات الدولية التي بدأت تعتمدها كل المصارف في العالم. وهي بمثابة اختبار ضغط لا بد منه للمصارف. لكن المصارف خشيت من نتائج هذا التعميم على نسب الارباح التي قد تشهد بدورها المزيد من التراجع نتيجة هذه الاجراءات.
وقد تمّ حل هذه المشكلة، من خلال السماح للمصارف باستخدام الاحتياطي الالزامي في حجز المؤونات، بحيث لا تتأثر بيانات الارباح بهذه الحجوزات. وقد اعتبر ذلك بمثابة مخرج للالتزام بالمعايير الدولية، وفي الوقت نفسه عدم اعطاء الانطباع بأن الارباح المصرفية تتراجع، بسبب التأثيرات السلبية على الراغبين في الاستثمار في هذا القطاع.
هذه الاوضاع القائمة، بالاضافة الى المطلوب لاحقا، كلها امور تضغط اكثر فأكثر على المصارف الصغيرة التي بدأت تبحث عن الحلول المناسبة. ولا شك في أن واحداً من الحلول المعروفة تكمن في الدمج او البيع.
وقد شهد القطاع واحدة من حالات الدمج اخيرا بين بنك الصناعة والعمل والبنك التجاري للشرق الادنى. تهدف عملية الدمج الى ايجاد مصرف اكبر يستطيع ان يتوسّع ويصمد ويربح في هذه الظروف. لكن عمليات الدمج والبيع يراقبها مصرف لبنان عن كثب لئلا يتم استغلالها بشكل خاطئ يؤدي الى نتائج اشد خطورة على القطاع.
ويحرص المركزي على ابقاء القطاع بين يدي المصرفيين المخضرمين الراغبين في العمل المصرفي، لئلا يتحول البيع والدمج الى مجرد تجارة تبغي الربح السريع، وقد تسيئ الى صورة القطاع. ومن هنا، يرفض مصرف لبنان الموافقة على عمليات البيع التي لا تراعي هذه الشروط.
أخيراً، من الواضح ان الاستثمار في المصارف لا يزال يجذب المستثمرين اللبنانيين بصورة خاصة، حيث يعتبر هذا القطاع رغم الضغوطات الحالية، قطاعا آمنا ورابحا ومستقبله واعد، بالاضافة الى القيمة المضافة التي يمنحها الى المستثمرين فيه، وهي صفة ينشدها رجال الاعمال اللبنانيين اكثر من سواهم، بسبب طبيعة المجتمع اللبناني الذي يمنح الـ prestige مساحة اوسع في سُلّم القيم، تتفوّق على المجتمعات الغربية.