محمد إبراهيم السقا
في 19 يونيو الماضي بلغ سعر خام برنت 115 دولارا للبرميل، حتى وقت كتابة هذا المقال بلغ سعر البرميل 64 دولارا، أي أن سعر البرميل من خام برنت تراجع بنحو 51 دولارا، أو ما يمثل 44 في المائة من السعر، وهو تراجع كبير جدا. المشكلة هي أنه لا تبدو هناك أية ملامح في الأفق تشير إلى أن هذا التراجع في الأسعار سيتوقف عند مستوى سعري محدد، واليوم تتزايد توقعات المراقبين بأن النفط في طريقه لكي يصل إلى 40 دولارا، وهو توقع إن حدث فسيسبب كارثة مالية للدول المصدرة للنفط. فما أسباب هذا التراجع السريع في سعر النفط؟
من الناحية الاقتصادية، يفترض أن سعر أي سلعة يتحدد بالطلب والعرض، والعوامل المحددة لهما، التي في حالة النفط تتمثل في مستوى النشاط الاقتصادي وعوامل خارجية أخرى تمارس دورها في التأثير في السوق، على سبيل المثال حالة الجو والعوامل الجيوسياسية .. إلخ. في جانب الطلب هناك انخفاض واضح حاليا بسبب ضعف النشاط الاقتصادي نتيجة للأوضاع الاقتصادية السيئة في الدول المستوردة للنفط وعلى رأسها أوروبا وآسيا. ففي أوروبا ترتب على برامج التقشف المالي التي انتهجتها منطقة اليورو تراجع معدل النمو إلى مستويات متدنية وسالبة في بعض الأحيان. من ناحية أخرى، يتراجع معدل النمو في اليابان، وفي الصين والهند ومعظم الدول الناشئة في العالم، وهو ما دعا صندوق النقد الدولي إلى تخفيض تقديراته حول اتجاهات النمو في الاقتصاد العالمي أكثر من مرة. لم يقتصر التراجع في الطلب الآسيوي على ضعف مستويات النمو، وإنما أسهمت سياسات بعض الدول المستوردة حول خفض دعم الطاقة في انخفاض الطلب على النفط في القارة.
أما العامل الثاني فيتمثل في تراجع تأثير المخاطر الجيوسياسية في العالم على العرض العالمي من النفط، فقد ظلت الأسعار مرتفعة لفترة طويلة بسبب تركيز المعاملين على المخاطر الجيوسياسية المحيطة بالسوق، وأنه من المتوقع أن يترتب على تلك المخاطر، بصفة خاصة في الدول المنتجة للنفط في المنطقة وبالتحديد العراق وليبيا، إلى التأثير سلبا على العرض العالمي من النفط، غير أنه بدا من الواضح أن حالة القلق من هذه المخاطر لم يكن لها مبرر عملي، حيث لم تتحول هذه المخاطر إلى واقع فعلي على الأرض يمكن أن يهدد تدفقات النفط من مكامنه إلى أسواق المستهلكين، فالإنتاج لم يتأثر بالمخاطر الجيوسياسية، واستمرت هذه الدول في الضخ عند مستويات مرتفعة، ما أدى إلى تزايد العرض في السوق في الوقت، الذي يتراجع فيه الطلب، فقد تضاعف الإنتاج الليبي منذ حزيران (يونيو) الماضي ثلاثة أضعاف تقريبا إلى 900 ألف برميل يوميا، على الرغم من أن ذلك يمثل نحو 60 في المائة فقط من الإنتاج الطبيعي لليبيا، كما أن الصراع مع تنظيم “داعش” لم يؤثر في تدفقات النفط من العراق، وهو ما أدى إلى تلاشي التهديد من تأثر العرض العالمي للنفط نتيجة لهذا النوع من المخاطر، وبالتالي هدوء الضغوط على الأسعار نحو الارتفاع وبدء تراجعها.
العامل الثالث هو تزايد الدور الأمريكي في الإنتاج العالمي للنفط وتحول الولايات المتحدة من واحد من أكبر مستهلكي النفط إلى واحد من أكبر منتجيه، حيث أصبحت الولايات المتحدة تنافس منتجي العالم الكبار مثل السعودية وروسيا من حيث حجم الإنتاج اليومي، نتيجة التطور الكبير في تقنيات استخراج النفط الصخري، الذي أدى إلى تمكين أكبر مستورد للنفط من إحلال النفط المحلي محل المستورد، ونتيجة لذلك استعادت الولايات المتحدة طاقتها الإنتاجية في الثمانينيات، إلى الحد الذي تفكر فيه أمريكا حاليا بجدية برفع الحظر على عمليات تصدير النفط الأمريكي، ونتيجة لهذه التطورات أصبحت الولايات المتحدة تستورد اليوم كميات أقل عما سبق، وهو ما أدى إلى وجود فائض في الطاقة الإنتاجية في الدول المنتجة للنفط، ولكن من الملاحظ أن هناك مبالغة في وصف تأثير النفط الصخري على تراجع أسعار النفط. بالطبع النفط الصخري تتزايد أهميته، لكن لا يمكن أن يتحمل المسؤولية الأساسية عن التراجع الجوهري الأخير في سعر النفط لعدة عوامل أهمها أن النفط الصخري موجود منذ زمن، وتتزايد الكميات المنتجة منه ببطء ولم يقفز العرض منه أخيرا على الصورة، التي يمكن القول إنها أغرقت السوق الأمريكية من هذا النوع من النفط، من ناحية أخرى فإن إجمالي الكمية المنتجة من النفط الصخري إذا ما قورنت بالعرض العالمي للنفط تعد محدودة جدا، وبالتالي ليس من المتوقع أن تسبب هذا التراجع المقلق لسعر النفط.
العامل الرابع هو أن السلع التجارية في العالم، التي تسعر بعملة العالم، أي الدولار، يتأثر أيضا سعرها السوقي بقيمة الدولار، فعندما ترتفع قيمة الدولار تصبح مثل هذه السلع منخفضة القيمة داخل الولايات المتحدة ومرتفعة القيمة بالنسبة لباقي دول العالم، وقد شهد الدولار الأمريكي في هذا العام ارتفاعات متتالية في قيمته ترتب عليها تراجع السعر السوقي للنفط نتيجة لذلك، فمع ارتفاع قيمة الدولار يتحول النفط إلى منتج مرتفع التكلفة بالنسبة للدول الأخرى خارج الولايات المتحدة، وهو ما يقلل الطلب العالمي عليه، وبالتالي تتزايد الضغوط على سعره نحو التراجع.
أما أهم العوامل المسؤولة عن تراجع أسعار النفط في وجهة نظري فهو السلوك المثير للدهشة لمنظمة أوبك، فقد كان من المتوقع أن تتخذ «أوبك» موقفا حاسما لاستيعاب النمو في العرض حتى تخفف الضغوط على الأسعار، باعتبارها اتحاد المنتجين للسلعة، الذي من المفترض أن تكون وظيفته الأساسية هي ضبط توازن السوق. في مواجهة هذا التراجع في الأسعار لم تقدم «أوبك» على خفض الإنتاج للحد من ضغوط العرض في السوق، وبدلا من ذلك أعلنت «أوبك» عن الإبقاء على حصتها الحالية من الإنتاج، وهو ما تسبب في انخفاض الأسعار بصورة أكبر. لم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما بدأ بعض أعضاء «أوبك» في تقديم خصومات سعرية للمستوردين، على سبيل المثال قامت السعودية بتخفيض أسعار النفط، الذي تبيعه لمشتريها الرئيسيين في آسيا والولايات المتحدة، وقد تبعتها إيران والعراق والكويت، وقد شبه بعض المراقبين ما يحدث على أنه حرب أسعار داخل «أوبك»، وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء، فمن الواضح أن المملكة مستعدة لتحمل الأسعار المنخفضة حتى لا تخسر عملاءها في مناطق الاستهلاك الكبرى في العالم، وأن الاستراتيجية السعودية تركز اليوم على الحصة، بغض النظر عن التأثير على السعر، ربما لأنها تنظر إلى تأثر السعر على أنه تأثير وقتي، وأن الأسعار ستميل نحو الارتفاع لاحقا.
بالطبع العوامل التي تساند الاستراتيجية السعودية في هذا الجانب هي وفرة الاحتياطيات، التي تكونت عبر السنوات الخمسة عشر الماضية، وانخفاض مستوى الدين العام إلى معدلات متدنية جدا بالنسبة للناتج، وبالتالي فإن الضغوط المالية لانخفاض أسعار النفط على المملكة تعد محدودة في الوقت الحالي، ولكن من المؤكد أن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تستمر على المدى المتوسط لأن الإنفاق الجاري في المملكة بلغ مستويات لا يمكن استدامتها دون سعر مرتفع للنفط.
وأخيرا، فإن هناك دورا أيضا لنظرية المؤامرة، حيث على الجانب الآخر يرى الرئيس فلاديمير بوتين أن التراجع الحادث في سعر النفط مسبباته سياسية بالدرجة الأولى أكثر منها اقتصادية، والذي يعزوه بوتين إلى تعاون أمريكا وحلفائها ضد موسكو لتركيع روسيا أمام ضغوط الغرب حول مشكلة أوكرانيا، وقد بدأت روسيا تشهد بالفعل تراجعا في قيمة عملتها مع تزايد الضغوط عليها في سوق الصرف الأجنبي بسبب ضغوط تراجع الإيرادات النفطية.