جرى التوصل إلى اتفاق نفطي ما بين بغداد وأربيل في 2 كانون الأول (ديسمبر) الجاري على أساس تبني خطوات مرحلية متوازية يقدم فيها الطرفان ما يمكن أن يبعث الثقة لدى الطرف الآخر في الوصول إلى حلول للموضوع النفطي الشائك وموازنة إقليم كردستان، بدلاً من معالجته بإعلان شامل ونهائي على حل لكل المشاكل العالقة، من دون التوصل إلى أي حل، كما تعودنا سابقاً.
وساعد الوصول إلى الاتفاق التغيير الحكومي نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة، وتعيين الاقتصادي عادل عبد المهدي وزيراً للنفط. ودفع به تدهور أسعار النفط، وحاجة الطرفين إلى إنتاج إضافي ومستقر يعوض الخسارة المالية. وساعدت الحكومة الأميركية، من خلال محادثاتها مع الطرفين، بالدفع قدماً للوصول إلى صيغة تساعد البدء بحل هذه المشكلة. ولم ينشر حتى كتابة هذا المقال النص الكامل للاتفاق، ما أثار جدلاً واسعاً حول نصوصه غير المعلنة. ومن الأجدى نشر النص الكامل قريباً لتفادي اللغط حوله.
يحاول الاتفاق، الذي سيبدأ تنفيذه مطلع العام المقبل، تقليص الخلافات ووضع حدود لها. فقد احتجت حكومة الإقليم سابقاً على أن حكومة نوري المالكي منعت عنها الريع النفطي المستحق لها منذ أكثر من عام. بحسب الدستور يحق للإقليم نحو 17 في المئة من الدخل الصافي النفطي. والسبب في توقف الدفع هو رد فعل عقابي من المالكي على تصدير حكومة الإقليم النفط من دون موافقة بغداد. وجرى الاتفاق الآن على تصدير النفط من الإقليم (بالإضافة إلى نفط كركوك).
واعتمد الاتفاق مبدأين رئيسيين: أن النفط هو ملك الشعب العراقي كله وأن موضوع صادرات النفط هو أمر سيادي من اختصاصات الحكومة الفيديرالية. على ضوئه، تعهد الإقليم تزويد «مؤسسة تسويق النفط العراقية» (سومو) الحكومية 250 ألف برميل يومياً من نفط إقليم كردستان لتصديره عبر جيهان ابتداء من 1 كانون الثاني (يناير) المقبل. وتعهدت حكومة الإقليم «تسهيل» تصدير 300 ألف برميل يومياً من نفط كركوك عبر «سومو». ويتوقع أن تحصّل الحكومة العراقية ريعاً نفطياً في مقابل هذه الصادرات (550 ألف برميل يومياً) تقدر بنحو بليون دولار شهرياً (على أساس تراوح السعر ما بين 65 و70 دولاراً للبرميل). ووافقت حكومة الإقليم على تزويد بغداد بنحو 150 ألف برميل يومياً من نفوط كردستان العراق خلال كانون الأول الجاري، أي قبل شهر من تاريخ تنفيذ الاتفاق.
يذكر أن منظومة أنابيب التصدير العراقية (كركوك – جيهان) تتكون من أنبوبين داخل العراق وتركيا بطاقة تصميمية 1.6 مليون برميل يومياً. لكن طاقة المنظومة داخل العراق انخفضت عبر السنوات الماضية لتصل إلى 1.1 مليون برميل يومياً بسبب التفجيرات المتعددة وقلة الصيانة. وتوقف أحد الخطين داخل العراق كلياً قبل سنتين. بينما استمر الخط الثاني بطاقة 550 ألف برميل يومياً، ولكن بضخ 300 ألف برميل يومياً. إلا أن هذا الخط توقف بدوره في الربع الأول من 2014. والتحدي الآن للحكومة العراقية هي أن منظومة الأنابيب تمتد على غرب نهر دجلة من بيجي إلى الحدود التركية، وهي الآن تحت سيطرة «داعش». من ثم لا يمكن تصدير نفط كركوك عبرها. لذا تجب «الاستعانة» بضخ 300 ألف برميل يومياً عبر خط الإقليم الجديد.
وتعهدت بغداد تحويل 500 مليون دولار إلى حكومة الإقليم خلال الشهر الجاري لمساعدة موازنة حكومة الإقليم. ووافقت بغداد على تحويل مبلغ شهري لحكومة الإقليم في العام المقبل يعادل 17 في المئة من الريع النفطي الصافي للبلاد. وتعهدت بغداد تمويل بعض نفقات البيشمركة. ويتوقع أيضاً أن تحول حكومة الإقليم إلى الحكومة العراقية أي زيادة في الإنتاج عن معدل 250 ألف برميل يومياً. وهذا يعني، تحويل 150 ألف برميل يومياً إضافية خلال النصف الأول من 2015، لترتفع الإمدادات إلى نحو 250 ألف برميل خلال النصف الثاني من العام المقبل. وستكرر حكومة الإقليم نحو 120 ألف برميل يومياً في مصافيها المحلية. وبعد تلبية الطلب المحلي في الإقليم، ستصدر أربيل إمدادات المنتجات البترولية الفائضة وتستعمل قيمة الصادرات هذه لدفع التزاماتها تجاه الشركات الدولية العاملة في حقولها.
وبما أن الاتفاق مرحلي، وبما أن صناعة النفط العراقية عانت كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية من خلال تبني سياسات تتوجه إلى الاهتمام باستمرار المشاكل، من دون محاولة حلها، يبقى هناك كثير من التحديات التي تواجه الوزارة الجديدة، منها: موضوع مقاطعة الشركات الدولية التي تعمل في إقليم كردستان ومنعها من العمل في بقية الأراضي العراقية، خصوصاً بعدما تبين أن أرقام الإنتاج المتوقعة هي اقل من المعلن سابقاً (كان متوقعاً أن يبلغ إنتاج العراق نحو 12.50 مليون برميل يوميا بحلول 2017، بينما يتراوح الإنتاج الحالي نحو ثلاثة ملايين برميل يومياً، والتوقعات الجديدة تشير إلى إنتاج نحو ستة ملايين مليون برميل يومياً في 2020) وهذا يستدعي استثمارات ضخمة من قبل الشركات العالمية، الأمر الذي ليس بهذه السهولة في ظل تدهور الأسعار.
وهناك مشكلة معالجة ضخ المياه في الحقول للمحافظة على إنتاجيتها، ومحاربة الفساد، ومعالجة مسألة كركوك، وإحياء شركة النفط الوطنية، بالإضافة إلى تشكيل مجلس للنفط يضم كبار المسؤولين والخبراء وممثلين عن المناطق المنتجة بهدف رسم السياسة النفطية وتنسيقها، تفادياً لفردية القرار كما حدث سابقاً وما تحملته البلاد من خسائر جسيمة نتيجة لذلك.
هذه تحديات جسيمة للقطاع النفطي. لكن هناك تحديات أمنية أخطر تواجه البلاد. فهناك توسع خطر لدور المليشيات في الدولة، وهناك تغلغل عسكري إيراني علني وسافر، تقابله عودة النفوذ العسكري الأميركي. ويبرر بروز هاتين الظاهرتين محاربة «داعش». لكن السؤال هو ماذا بعد «داعش»، خصوصاً مع تدفق السلاح وانتشار كل هذه القوى المسلحة على الأرض، واستمرار غياب جيش عراقي قوي؟ هذه مقومات لحرب داخلية مستقبلية ستكون لها انعكاسات مدمرة على اقتصاد البلاد، بما فيه قطاع النفط.