IMLebanon

دراغي، يونكر وميركل: ثلاث شخصيات أوروبية وسياستان اقتصاديتان

MerkelDragyJuncker
حسن مراد

ثلاثة أوروبيين يتصدرون المشهد الاقتصادي الراهن: رئيس المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. وجوهٌ ثلاثة تختزل وجهتي نظر متباينتين حيال الجمود الاقتصادي الذي تعرفه دول الاتحاد الأوروبي.

خطاب دراغي خلال الندوة السنوية للمصارف المركزية في آب الفائت، مثّل رسمياً الانعطاف في عقيدة المصرف المركزي الأوروبي، حيث طالب باستراتيجية متكاملة على المستويين الإقليمي والمحلي تجمع بين السياستين المالية والنقدية، إضافةً إلى الإصلاحات الهيكلية للدول الأعضاء.

فلمواكبة التدابير النقدية التي اتخذها المصرف المركزي الأوروبي منذ حزيران والمتعلقة بخفض أسعار الفائدة، ولتحفيز الدول الأعضاء على المضي قدماً في اصلاحاتها الهيكلية، يطالب دراغي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (خاصةً المنضوية في منطقة اليورو) التي تمتلك فوائض مالية باستخدامها لمؤازرة المصرف المركزي.

يشير دراغي إلى أنه طالما بقيت معدلات الاستهلاك منخفضة، فإن الاقتصاد الأوروبي سيبقى على حاله؛ وإذا ما اضفنا عاملاً آخر هو انكماش الأسعار المتزايد، يتضح السبب وراء التفاعل المحدود للمستثمرين مع التدابير النقدية الجديدة للمصرف المركزي. هذه الأسباب هي ما يدفع دراغي لمطالبة الدول باعتماد سياسة مالية توسعية لدعم القدرة الشرائية والمساهمة في رفع معدلات التضخم لما يقارب في المئة، مطلبٌ يتوجه في المقام الأول الى الخزينة الألمانية.

إلا أن للمستشارة الألمانية مقاربة مختلفة للحل ترفض من خلالها التجاوب مع خطاب دراغي. فبرلين تتمسك بحزم بمبدأ احترام معايير التقارب المالية، لذا فهي ليست بوارد التخلي عن هدفها بالعودة إلى التوازن في المالية العامة في العام ، حتى أن ميركل تضغط على دول الاتحاد ومنطقة اليورو كي تتبنى بدورها سياسات تقشف.

بحسب برلين، عدم امتثال الحكومات لمعايير التقارب المالية في السابق واستثمارها في مشاريع ذات مردود محدود كانا من الأسباب الرئيسية لتفجر أزمة الديون السيادية. وبالتالي، فان الانتعاش الاقتصادي محكوم بترشيد الإنفاق العام وسلسلةٍ من الإصلاحات الهيكلية لاستعادة ثقة الأسواق ما يسمح للدول بالحصول على تسهيلات مالية بشروط أفضل. أما السماح للدول باعتماد سياسة مالية توسعية في الظروف المالية والنقدية الراهنة فإنها – وفقاً للمستشارة الألمانية – قد تدفع حكومات الدول الأعضاء الى التخلي عن الإصلاحات المطلوبة (نظراً لكلفتها من الناحية التقشفية) واستئناف عاداتها القديمة التي اوصلت الى المأزق الاقتصادي الحالي.

إضافةً الى مقاربتها هذه، تواجه ميركل تحديا داخليا يدفعها الى التشبث بهكذا سياسة. هذا التحدي يتمثل في الصعود اللافت لحزب «البديل لألمانيا» المناوئ للشراكة الأوروبية والذي يطالب بخروج ألمانيا من منطقة اليورو. فبعد حصوله على في المئة في انتخابات البرلمان الأوروبي ثم على في المئة في الانتخابات المحلية لولاية سكسونيا، تخشى المستشارة الألمانية أن يستقطب هذا الوافد المعارض الجديد على قسمٍ من ناخبيها. كما أن الجناح اليميني في حزبها لا ينفك يوجه انتقادات لميركل على خلفية التنازلات التي قدمتها للديموقراطيين – الاشتراكين في إطار التحالف الحكومي، حتى أنهم يطرحون التحالف مع «البديل لألمانيا». لكن، وعلى اعتبار أن ميركل ترفض هذا المطلب، فأنها تجد نفسها مضطرة للتمسك بخطابها المالي الحازم خاصةً لناحية رفض اعتماد سياسة مالية توسعية تتيح لباقي الدول الأوروبية التمتع بالخيرات الألمانية.

ما تم ذكره آنفاً عن دراغي ليس بجديد.. ففرنسوا هولاند وماتيو رينزي يتبنيان أيضاً هذه السياسة التوسعية مقابل توجهات برلين التقشفية. إلا أن ما دفع بدراغي إلى واجهة الحدث الأوروبي هو سعيه العملي لوضعها موضع تطبيق عبر استخدامه هوامش نقدية لا تتوافر لدى رؤساء الدول والحكومات المنضوية تحت مظلة اليورو. ففي محاولةٍ منه لدفع برلين للتجاوب مع هذه السياسة، طرح دراغي إمكان لجوء المصرف المركزي الأوروبي إلى ما يعرف بالتيسير الكمي وهي سياسة نقدية توسعية تلجأ إليها المصارف المركزية بصورة استثنائية عندما يتبين أن السياسة التقليدية غير فعالة. كلمة «الكمي» ترمزالى زيادة في كمية الأموال في الدورة الاقتصادية عبر شراء مجموعة متنوعة من الأصول والأوراق المالية. في الحال الأوروبية، سيتم استخدام هذه الأداة النقدية لشراء سندات خزينة ذات استحقاقات طويلة، بعبارة أخرى إقراض الحكومات.

ينتظر المصرف المركزي الأوروبي من التيسير الكمي أن يسمح للجهات الفاعلة في القطاع العام بالحصول على الأموال اللازمة لإطلاق استثمارات طويلة الأجل. بالتوازي، ستشكل هذه الأداة النقدية سنداً للمصرف المركزي في بلوغ ما يصبو إليه حالياً من رفعٍ لمعدلات التضخم. من ناحية أخرى، سيكون للتيسير الكمي أثر على سوق العملات، حيث أن طبع مزيد من الأوراق النقدية سيؤدي الى انخفاض قيمة اليورو مقابل باقي العملات وخاصةً الدولار الاميركي، ما يعزز الصادرات الأوروبية.

هذا الطرح ترفضه برلين، إذ أن هكذا تدابير من شأنها زيادة حجم الأموال في الدورة الاقتصادية بما يقارب مليار يورو وهو ما تعتبره المستشارة الألمانية مكافأةً للدول على تقصيرها السابق، إضافةً إلى إضعاف موقف «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» الذي تتزعمه ميركل في مواجهة «البديل لألمانيا» الذي يتهم منطقة اليورو باستنزاف الموارد المالية الألمانية.

يدرك دراغي أن الانتعاش الاقتصادي الذي يصبو إليه سيكون صعب المنال إذا لم يقترن بجهودٍ حكومية. بعبارة أخرى، طالما أن معدلات الطلب منخفضة لن يتحمل المستثمرون مغامرة تحريك العجلة الاقتصادية عبر سياسة العرض. على العكس من ذلك، يعلم دراغي تمام المعرفة أن التيسير الكمي بمعزل عن أي جهود حكومية، قد يؤتي بنتائج عكسية تتعلق بتغذية فقاعة اقتصادية تنتهي بانفجارها، ما يعيد القارة العجوز إلى نقطة البداية في أزمة الديون السيادية.

لا ينكر أنصار هذا التوجه ضرورة خفض معدلات الدين العام، لكن بخلاف ميركل فإنهم يدعون إلى انتعاش اقتصادي يؤدي إلى ارتفاع معدلات النمو ما يخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي.

رغم أن السياسة النقدية في منطقة اليورو مستقلة، إلا أنه لا يمكن الجزم اذا كان المصرف المركزي الأوروبي سيلجأ إلى التيسير الكمي للأسباب المذكورة أعلاه. حتى اللحظة، لم يتعدى الأمر شد الحبال بين دراغي وميركل لدفع برلين لملاقاته وهو ما لم يتحقق حتى الساعة. ما يؤكد هذه الفكرة هو تصريح دراغي في الرابع من الشهر الجاري حيث أكد ضرورة التريث حيال هذه الخطوة التي من المتوقع أن يتم بحثها مطلع العام المقبل. إلا أن دراغي لم يخرج خالي الوفاض حتى الساعة، فالأسواق أخذت في الاعتبار احتمال لجوء المصرف المركزي الأوروبي الى هذه الأداة النقدية غير التقليدية ما ساهم بإشاعة أجواء من الثقة لدى الفعاليات الاقتصادية من خلال بروز المصرف المركزي كضامن نهائي لاستقرار منطقة اليورو.

أخيراً، قد يبدو للبعض أن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر يلاقي دراغي من خلال طرحه خطةٍ استثمارية من مليار يورو وعد فيها باستبعاد مساهمات الدول الأعضاء لهذا المبلغ من حساب عجز الموازنة. إلا أن هذا الرقم يخفي ما يشبه الحيلة لتسويق خطته هذه أمام الرأي العام الأوروبي، حيلةٌ قوامها آلية حسابية تعرف بالرفع المالي.

في الواقع، سيتم إنشاء «الصندوق الأوروبي للاستثمارات الاستراتيجية» برأسمال قدره مليار يورو. هذا الصندوق سيقدم قروضاً تصل إلى ثلاثة أضعاف رأسماله أي مليار يورو. ما يراهن عليه يونكر هو تجديد الثقة في السوق الأوروبية، ما يحفز القطاعين العام والخاص على الاستثمار حتى خمسة أضعاف المبالغ المقرضة أي مليار يورو. طبقاً لحسابات المفوضية الأوروبية فإن كل يورو يساهم في رأسمال الصندوق سيخلق خمسة عشر يورو للاقتصاد الأوروبي وفقاً لألية الرفع المالي. هذا الرقم لا يعدو كونه تقديراً من المفوضية الأوروبية، تقديرٌ يتوقف على درجة تفاعل المستثمرين مع خطته.

إضافةً إلى ذلك، لا يبدو أن المفوضية في وارد تخفيف حدة خطابها حيال ضرورة ترشيد الإنفاق العام وضبط عجز الموازنة والدين العام. مؤخراً، طلبت من سبع دول (من ضمنها فرنسا وإيطاليا) ببذل جهود إضافية حيال هذه المسائل. هذه هي الرسالة الحقيقية التي سترسخ لدى الحكومات الأوروبية: ستبقى المفوضية تضغط باتجاه مزيدٍ من التقشف ما لا يحفزها على المساهمة في الصندوق الأوروبي المنوي انشاؤه حتى لو اقتطعت مساهمتها من حساب عجز الموازنة، إذ تفضل ضخ هذه الأموال في اقتصاداتها المحلية طالما أن عصا التقشف ستبقى مرفوعة.

في الجوهر، يقترب رئيس المفوضية من سياسات ميركل. فرغم شكلها الظاهر، فإن هذه الخطة الاستثمارية لا ترتقي إلى الجهود الأوروبية التي طالب بها دراغي في خطابه الشهير قبل أربعة أشهر. ومع ذلك، فإنه ورئيس المصرف المركزي الأوروبي يتشاركان – كلٌ على طريقته – في ضرورة إشاعة أجواء من الثقة لتحفيز النشاط الاقتصادي الأوروبي.

إذا ما نحينا جانباً الضغوط السياسية (الأوروبية منها والداخلية) التي تتعرض لها برلين، يبقى أن العامل الوحيد الذي قد يدفع المستشارة الألمانية لملاقاة دراغي هو استجابتها للضغوط الاقتصادية الداخلية المتمثلة بالنمو الألماني المتباطئ، وقد طالب اتحاد الصناعيين الألمان الحكومة بالتحرك لتفادي الانزلاق نحو ركودٍ.

من الواضح أن المستشارة الألمانية تبقى سيدة اللعبة، فستون عاماً من التكامل الاقتصادي الأوروبي لم تهمش أهمية الجهود الوطنية في عملية الانتعاش الاقتصادي.