مكرم صادر – الأمين العام لجمعية مصارف لبنان
بالرغم من عدم توافر المعطيات الإحصائية حتى نهاية العام 2014، بيد أن المتوافر منها للفصول الثلاثة الأولى يؤشر إلى أن النشاط الاقتصادي يسجّل مستوى من الحركة المقبولة أو المُرضية ضمن الظروف المحيطة بالبلد، داخلياً وإقليمياً وحتى عالمياً، مع معدّلات نمو للاقتصاد العالمي أدنى من المتوقَّع (3.1 في المئة بدلاً من 3.3 في المئة) بما فيها الاقتصادات المتطورة (1.7 في المئة بدلاً من 1.8 في المئة).
فالاقتصاد اللبناني، استناداً إلى صندوق النقد الدولي، يسجّل معدّلات نمو بحدود 2.5 في المئة للعامين 2012 و 2013 تنخفض إلى ما دون 1.8 في المئة كمعدل مرتقب لعام 2014 أو ما بين 1.8 في المئة – 2 في المئة استناداً إلى تقديرات مصرف لبنان. طبعاً نحن بعيدون جداً عن المعدّلات المسجّلة سابقاً لفترة 2007 – 2010 (9.2 في المئة) وبعيدون في المقابل عن التوقعات المتشائمة التي تحدثت عن نمو سلبي دون الواحد بالمائة.
أما معدّلات التضخم فقد استقرّت تقديراتها من قبل إدارة الإحصاء المركزي في لبنان على 3.5 في المئة تباعاً للعامين 2013 و 2014، أي أن الاقتصاد اللبناني لا يعاني من الركود الذي تعيشه، على سبيل المثال، منطقة اليورو، حيث يقدَّر معدّل النمو لعامَيْ 2013/2014 بأدنى من 1 في المئة (0.8 في المئة). ويجهد البنك المركزي الأوروبي من خلال الاستمرار في سياسة ضخّ السيولة كي يُخرِجَ الاقتصاد من ركوده، عبر رفع أجَل معدّل التضخم من مستواه الحالي أي 0.7 في المئة إلى حدود 2 في المئة، وهو المعدّل المستهدف. فارتفاع معدّلات التضخم تسمح للمؤسّسات برفع أسعارها وتالياً بتعزيز الدورة الاقتصادية.
وهكذا يُتَوقَّع أن يشهد الاقتصاد اللبناني خلال العام 2014 معدّل نمو إسميا، أي النمو الحقيقي مضافاً إليه معدّل التضخم، يراوح بين 5.3 و 5.5 في المئة. وتشكِّل المعدّلات الإسمية مقياساً « لزيادة « تطور مجاميع المالية العامة للدولة ومقياساً للوقوف على بعض الأنشطة التي لدينا إحصاءات عنها، ومنها طبعاً النشاط المصرفي.
نشير بدايةً إلى أن إحصاءات المالية العامة في جانبَيْ المقبوضات والمطلوبات متوافرة حتى آخر شهر آب 2014 فقط، من غير أن يكون ثمّة تفسير لهذا التأخير. وإستناداً إلى ما هو منشور، فإن المقبوضات الإجمالية لفترة آب 2013 – آب 2014 قد زادت بما يقارب 13 في المئة، أي بمعدّل يفوق معدّلات النمو والتضخم! في المقابل، تراجعت النفقات بمعدل 1.7 في المئة!!… طبعاً تُرْجِمَ هذا الوضع بتراجع نسبة العجز العام إلى النفقات العامة من 29 في المئة في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2013 إلى 19 في المئة في الفترة ذاتها من العام 2014، وهذا تطورٌ إيجابي. لكنَّ هذه السياسة المالية الانكماشية ساهمت في الركود الاقتصادي للبلد بدل أن تساهم في إحداث نمو أفضل للاقتصاد الوطني.
ويُلاحَظ أن مصرف لبنان، أسوةً بالسياسات النقدية التوسّعية التي تلجأ إليها المصارف المركزية في أميركا وأوروبا واليابان، وفَّر للمصارف حزمةً من التحفيزات لدعم النشاط والنمو الاقتصادي. وكان يمكن لو تناسقت السياستان المالية والنقدية تحقيق معدّلات نمو أفضل خصوصاً لو أحدثت الوزارة انحرافاً إيجابياً لمصلحة الإنفاق على البنى التحتية. طبعاً ليست وزارة المالية وحدها معنيَّة بهذا الموضوع. فالسؤال ينسحب وبشدّة لئلا نقول بحدّة إلى مجلس الإنماء والإعمار حيث أعباء النفقات الجارية بما فيها الأجور مستمرّة (!) وأعمال البنى التحتية متوقفة، حتى بما يعود منها للصيانة.
كما في حال الماليةُ العامة، لم تساهم التجارة الخارجية في دعم النشاط الاقتصادي، ذلك أن قيمة الواردات، وهي عنصر هام في الطلب الإجمالي، تراجعت في فترة كانون الثاني – تشرين الأوّل 2013 / كانون الثاني – تشرين الأوّل 2014 بنسبة 21 في المئة من 7.17 إلى 17.5 مليار دولار. وتراجعت الصادرات، كمكوِّن من الانتاج، بنسبة 19 في المئة تقريباً من 3.4 إلى 2.8 مليار دولار للفترة ذاتها. ويُفسِّر التراجع الكبير للصادرات تفاقم العجز بمعدّل 3 في المئة للفترة المشار إليها، أي من 14.2 إلى 14.7 مليار دولار. وفي هذا السياق، سجَّل ميزان المدفوعات الخارجية عجزاً قدره 868 مليون دولار للأشهر العشرة الأولى من العام 2014 مقارنةً مع عجزٍ بلغ 1470 مليوناً في الفترة المماثلة من العام 2013، أي أن العجز هذا العام جاء أدنى بنسبة 41 في المئة ممّا سبق!.. ومن البديهي أن استمرار العجز الصافي في ميزان المدفوعات، ولو بمستوى أدنى، لا يساعد على نمو الودائع لدى الجهاز المصرفي. ويؤمل مع تراجع أسعار النفط وانعكاسها الفعلي على الفاتورة النفطية أن تشهد المدفوعات الخارجية تحسناً في الفترة المقبلة.
إزاء التطورات التي تمَّ استعراضها على صعيد معدّلات نمو الاقتصاد الإسمي (5.5 في المئة) وعلى صعيد المالية العامة للدولة وتجارة لبنان الخارجية، أظهرت الإحصاءات المصرفية حتى آخر شهر تشرين الأول 2014، والتي ينشرها مصرف لبنان، أن إجمالي الميزانية المجمّعة للمصارف نما بمعدل 6.6 في المئة. ويقترب هذا المعدّل من معدّل النمو الإسمي للاقتصاد المشار اليه آنفاً، آخذين في الاعتبار السيولة الإضافية لدى القطاع، والتي يجري تعقيمها جزئياً من قبل السلطات أو الاحتفاظ بها في الخارج لأغراض تمويل حركة التجارة الخارجية بين لبنان وسائر العالم. والنقطة الأهم على صعيد نمو الاقتصاد تكمن في زيادة التسليفات المصرفية للاقتصاد، التي قاربت 3.5 مليارات دولار بالليرة والعملات الأجنبية، أي أن التسليفات للاقتصاد ارتفعت بمعدّل 8.5 في المئة على أساسٍ سنوي.
تجدر الإشارة إلى كون هذه التسليفات للقطاع الخاص قد أُعطيت بفوائد مدينة مستقرة خلال العام 2014، إن في سوق العملات الأجنبية ( 6.86 في المئة / 6.95 في المئة) أو في سوق الليرة ( 7.39 في المئة/ 7.29 في المئة) حتى نهاية تشرين الأول 2014. وتُعتبر هذه المعدّلات متدنية مقارنةً مع متوسط مردود محفظة سندات الخزينة: 6.9 في المئة للّيرة و 6.38 في المئة لليوروبوندز، رغم التفاوت القائم بين مخاطر الإقراض للدولة والإقراض للقطاع الخاص. ويُظهر تحليل الإحصاءات المنشورة من مصرف لبنان أن هوامش الفوائد بين كلفة الودائع ومردود التوظيفات شهدت منذ مطلع العام 2014 تراجعاً من 1.16 في المئة إلى 1.13 في المئة في سوق العملات الأجنبية ومن 1.16 في المئة إلى 0.96 في المئة في سوق الليرة اللبنانية. طبعاً ليس المطلوب مع تعثر النمو الاقتصادي زيادة الفوائد على الأُسَر والمؤسسات، ولكن تقتضي الإشارة إلى أن السياسة النقدية والمصرفية بلغت حدود فعاليتها. فمديونية القطاع الخاص باتت مرتفعة قياساً على المداخيل وبخاصة مديونية المؤسسات. وقد حان الوقت، رغم الظروف القائمة بل بسببها، لاعتماد سياسات اقتصادية ومالية ديناميكية ومغايرة تساعد قطاع المؤسسات إذا قرر التوسّع شرط أن يخلق فرص عمل جديدة وأن ينفذ الى أسواق تصدير جديدة أو أن يوسّع أسواقه القائمة.
أردنا مع نهاية هذا العام أن نستعرض بالأرقام واقع الأوضاع الاقتصادية وواقع التجارة الخارجية والمالية العامة مع إطلالة على بعض المعطيات المصرفية ذات الصلة بالنمو الاقتصادي. ويُستشفّ من هذه القراءة المقتضبة أن الاقتصاد ليس كما يأمل المرء أن يكون، لكنه يبقى أفضل الممكن متروكاً لآليات السوق. والتغيير ممكن إذا تدخّلت الدولة من خلال زيادة الإنفاق المنتج في البنية التحتية المادية والاجتماعية وكبح الهدر غير المحتمل في بعض المرافق العامة كالكهرباء وإطلاق بعض الإصلاحات الضرورية في الضمان الاجتماعي وفي آليات عمل التغطية الاجتماعية. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، نرى أن إصلاح الكهرباء والضمان الاجتماعي من شأنه أن يسهم في تعزيز النمو إذ يُخفّض كلفة المؤسسات ويُحسِّن أداء الاقتصاد.