ماجد منيمنة
المجتمعات الواعدة هي تلك المجتمعات المواكبة لمتغيرات وضرورات العصر لا يوقفها مانع ولا يحول بينها وبين خطواتها نحو المستقبل حائل, تعيش في بيئة يغلب عليها طابع المعرفة والتعايش والتعددية في كل شيء, تحلم بمستقبل مزدهر تؤسس له وللأجيال القادمة عبر قواعد يمكنها تحقيق الآمال دون تسويف أو تأجيل. كما أن الإصلاحات في شتى الميادين هي ضرورات وخيارات مفتوحة وليست ترف تقوم بها النخب الحاكمة أو المؤسسات الراعية لمصالح المجتمع, لأن الإصلاح الإقتصادي لا يتحقق الإ في ظل إصلاح سياسي مستقر والإصلاح التنموي لا يتحقق في ظل غياب إصلاح إقتصادي لا يفعل العجلة الإقتصادية. ومن المعلوم أن الإصلاحات بمختلف أساليبها وأنواعها لا يمكنها أن تتحقق في ظل غياب الرؤية الواضحة عن مشاريع إنمائية ودعم أوعيتها الدستورية والتنظيمية والقانونية , فالإصلاح حلقات مترابطة لا يمكن فصل حلقة عن أخرى ولا يمكن تجاوز مرحلة أو تأجيل أخرى. وما يزال ذلك الملف المسمى بملف الإصلاح يسير وفق خطوات قد تكون بطيئة لأسباب سياسية ولكن المجتمع يتطلع لدوران أسرع لعجلة ذلك الإصلاح لتشمل أنظمة ولوائح مضى عليها أكثر من ربع قرن من الزمان! ملف الإصلاح سائر بخطى بطيئة لأسباب متعددة لعل أهمها عدم وجود ارادة لردع عامل الفساد الذي يستفيد منه النافذون وعدم نشر ثقافة حقوق المواطنين من خلال نهج المحاسبة العادلة بسبب التردد في مقاضاة الفاسدين والمرتشين وناهبي المال العام الذين تكالبوا على خزينة الدولة وكأنها حق مكتسب لهم ولعائلاتهم وأزلامهم. كما أن معوقات ملف الإصلاح كثيرة ولعل أهم معوق هو المعوق الفكري والتعصب المذهبي وهما معوقان بحاجة لجراحة جذرية وتلك هي مهمة الحوار الوطني ومهمة المؤسسات الحكومية التي يجب أن تبدأ بتحديث أنظمتها ولوائحها المختلفة وسن أنظمة تردع كل من يحاول شق الصف الوطني.
ومن الصعب ان نفصل بين ارتفاع أصوات المطالبين بالتغيير والإصلاح وبناء دولة مؤسسات وليس من باب نكء الجراح أو المحاسبة المجردة ولكن من أهم أهدافها الاستفادة من تلك الأخطاء الهدامة للمجتمع ومن أجل أن ندرك أن الأسباب الحقيقية لكل ما حصل من تراجع وإخفاق في صلب مسارات العملية الاصلاحية وإعاقة بناء لبنان ديمقراطي كما كنا نحلم , تتلخص بالنقاط التالية:
أولاً: عجز غالبية اللاعبين المحليين عن الارتقاء بعملهم إلى ما فوق أسلوب المحاصصة الذي ابتدعه نظام الوصاية السورية وفشلهم الكبير والمزمن في تجسيد الحد الأدنى من التطلعات الوطنية البسيطة للمواطنين وتجنيبهم ويلات اجتماعية مع ضياع أسس الوحدة الوطنية.
ثانياً: وليس بعيدا عن العامل الأول بل يرتبط به مباشرة وهو هذه المنفعة الشخصية والأنانية وقصر النظر واستغلال السلطة التي فرّخت الفساد بأسوأ أشكاله وتمدد سيطرة مافياته إلى مفاصل مهمة وحيوية من الدولة، ومنها المؤسسات القضائية والتشريعية والأمنية, ناهيك عن فرض المناصب ولو بقوة السلاح وما ولّد من إحباط وخيبة أمل في نفوس المواطنين.
ثالثاً: الانحراف عن المسار الديمقراطي والتلاعب بمشاعر المواطنين واللامبالاة لمعاناتهم وصرخاتهم ومطالبهم التي رفعوها من اجل التغيير منذ تظاهرات آذار من عام 2006 وقمع أي توجه وصوت يدعو إلى الإصلاح الحقيقي وإنقاذ العملية السياسية واستخدام أسلوب التسقيط السياسي في مواجهة كل معارض لمنهج التفرد.
رابعاً: الاستخفاف بالمخاطر التي تشكلها الجماعات المسلحة الميليشياوية على مستقبل لبنان وعلى هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية وعدم معالجة أسبابها الحقيقية وإيجاد الحلول لتجفيف منابعها وإزالة حواضنها من خلال كسب ثقة المواطن وإشعاره ان مؤسسات الدولة هي لخدمته وليست حكراً على جهة أو طائفة كما كان يحاول ان يصوّر بعض المنتفعين.
خامساً: الانتهاكات المستمرة للدستور ولمبادئ حقوق الإنسان وتأويلها على وفق ما يريده الحاكم بأمره مما ضاعف من حجم الخلافات بين الشركاء والحلفاء وأعطى رسالة سلبية للمواطن عن مستوى العقلية التي تريد الإدارة السياسية في البلاد التحكم بشعبه على وفق أهوائها ورغباتها.
ومن الآثار السلبية على واقع الاقتصاد الوطني أن وكالة «موديز» الدولية للتصنيف الائتماني قد خفضت تصنيف ديون لبنان بالعملات الأجنبية إلى B2 من B1 وتصنيف الديون بالليرة اللبنانية إلى Ba2 من Ba1 مع نظرة مستقبلية سلبية، عازية السبب إلى زيادة في مقاييس الدَّين الحكومي وتداعيات الأزمة السورية على المالية العامة في لبنان والنمو الاقتصادي الضعيف للبلاد وعدم الاستقرارالسياسي. وتوقعت موديز في بيان صدر عنها يوم الخميس أن يبلغ مستوى الدَّين العام في لبنان عام 2015 نحو 140 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ثالث أعلى مستوى من بين البلدان التي تصنفها الوكالة. كما انها أشارت إلى أن الدَّين العام اللبناني زاد عن المستويات الكارثية في سنة 2011 حين كان يساوي 123 في المئة من الناتج المحلي وهو في زيادة مطردة. ولفتت إلى أن مقاييس أخرى للدَّين تدل إلى تزايد الأعباء، وأهم هذه المقاييس الحاجات التمويلية لأزمة النازحين وخدمة الدَّين العام كنسبة من العائدات الحكومية المفقودة.
كانت هذه ابرز العوامل المسببة لاضعاف هيكل الدولة والاقتصاد الوطني بالاضافة الى علاقاتنا السيئة بجوارنا العربي والإقليمي التي تفقد البلد من العائدات السياحية، بل حتى بالمجتمع الدولي التي تشوبه الأخطاء الكارثية. وقد جاءت مرحلة الانتخابات البرلمانية لتؤكد الاستحواذ من قبل الفاعلين على كل مفاصل الدولة لتكون ذريعة نحو تمديد قسري متنكرة بالأوضاع الأمنية ولكن باطنها هو من اجل استمرار الإمساك بزمام السلطة وصولجانها. لن ندّعي هنا أن مجلس النواب أو الحكومة ولا حتى رئاسة الجمهورية قد أقدمت على تحقيق خطوات عملية جادة بالاتجاه الذي يتناسب مع ضرورات المرحلة الجديدة أو ما يحتاجه الوطن لإصلاح الأوضاع المأساوية الكبيرة، غير أن الإنصاف والموضوعية يقتضيان الاعتراف بأن تركة الحرب الأهلية كانت ثقيلة فعلاً وأن المشوار ما زال في بداياته في حال كان هنالك ارادة لتفعيل هذا الملف الاصلاحي والقضاء على الفساد المستشري, طبعا من دون إغفال المؤشرات الإيجابية البسيطة التي ترشح من تصريحات رئيس الوزراء وقائد الجيش، ومنها عدم السماح بالالتفاف على الدستور وإعادة النظر بملف المصالحة الوطنية وحسم موضوع المخطوفين واطلاق المساءلة وفرض العدالة والبت بالملفات الشائكة بصورة سريعة.
من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء مرورا برئاسة الجمهورية المخطوفة الى مؤسسات المجتمع المدني إلى تحديث وتطوير مركز الحوار الوطني إلى المجالس البلدية والهيئات والمحافظات والأنظمة ولوائح ملفات, التي تقع تحت خانة واحدة ويجمعها قالب واحد وهو قالب الإصلاح من أجل القضاء على الفساد المستشري واطلاق ورشة تنمية إقتصادية متوازنة كضرورة وليس ترف. المرحلة الراهنة تتطلب الإسراع قدر الإمكان في معالجة ملف الإجراءات الإصلاحية فالإصلاح دعامة من دعائم الإستقرار ويجب أن لا نغفل عن تحصين الوحدة الوطنية وترشيد لغة الخطاب المجتمعي فالتقدم مرهون بالوحدة الوطنية المستقرة وبلغة الخطاب الهادئة غير المتطرفة وغير الجافة أيضاً..