عاش العالم على مر الزمان العديد من الأزمات الاقتصادية، لعل أشهرها على الصعيد العالمي في عصرنا الحديث أزمة عام 1929 والتي أطلق عليها أزمة الركود الكبير. والأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي تمحور سببها في اختلال السياسات المالية والنقدية في الدول المتقدمة، وبخاصة ما يتعلق بالسياسات الائتمانية، والإفراط في الإقراض الرديء.
وما من أمة إلا ومرت بأزمات اقتصادية مختلفة، وقد اختلف رد فعل الأمم والشعوب مع أزماتهم، فمنهم من تعلم الدرس واستوعب أسباب الأزمة وخطط لتفادي تكرارها وجعل من الأزمة فرصة لصناعة مستقبل أفضل. ومن الأمم من لم تملك سوى البكاء على أزماتها وتركتها تستفحل، لتدمر أجيالا قادمة. وأسوأ نتائج نموذج التباكي على الأزمات هو قتل الأمل لدى الأجيال القادمة.
وقد عاش العالم العربي النموذج السلبي، سواء على الصعيد القطري أو الإقليمي، ولعل فشل مشروع التكامل أو التعاون الاقتصادي العربي هو أوضح دليل على سلبية العرب في التعامل مع الأزمات الاقتصادية، فهناك إجماع على أن التكامل الاقتصادي العربي هو الحل الأمثل لمعظم المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة.
ومع ذلك بقيت الإرادات السياسية للدول العربية تحول دون الوصول لنجاح أولى خطوات التكامل الاقتصادي العربي، وهي منطقة التجارة العربية الحرة، فلا زالت التجارة العربية البينية تشكل 8% – 10% من إجمالي التجارة الخارجية العربية، وكان الإنجاز الأكبر في تجربة منطقة التجارة العربية الحرة هو القوائم السلبية للسلع التي أعدتها كل دولة لكي لا تدخل في حيز الاتفاقية، فأصبحت الاتفاقية كأن لم تكن.
اقتصاديات العولمة
فعند سيطرة نموذج اقتصاديات العولمة في مطلع تسعينيات القرن العشرين تنادت الكيانات الإقليمية لتبحث عن مصالحها، وأنجزت الاتفاقيات وسهلت الكثير من الإجراءات الاقتصادية لتبادل التجارة ورؤوس الأموال، حتى تكون كيانا واحدا في مواجهة العولمة، كما حدث مع تجمع الآسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) والنافتا (اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية) وغيرهما.
ولكن العرب ازدادوا فرقة وفشل كيانهم الجامع -وهو جامعة الدول العربية- في الحصول على صفة مراقب في منظمة التجارة العالمية، في حين أن الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي ممثل بعضوية كاملة.
ولعل الأزمة الأخيرة لانهيار أسعار النفط تجعلنا نمعن النظر في ذلك السلوك السلبي العربي تجاه الأزمات الاقتصادية، سواء على الصعيد الإقليمي أو القطري، وفيما يلي نماذج للدلالة على التعامل العربي السلبي مع الأزمات الاقتصادية.
محطات سلبية
أولا. أزمة الغذاء العالمية في عامي 2006 و2007، والتي عرضت الدول العربية لموجات كبيرة من التضخم بسبب ارتفاع أسعار الغذاء في السوق العالمية، ونظرًا لأن العرب لا يوفرون غذاءهم، ويدفعون فاتورة سنوية لوارداتهم من الغذاء تصل إلى ستين مليار دولار، فكان أثر الأزمة شديد الواقعة على الشعوب.
ولكن ماذا فعلت الدول العربية بعد تلك الأزمة؟ سارعت بعض الدول بشكل فردي باتخاذ قرار بالاستثمار الزراعي في السودان، دون تنسيق أو تخطيط، فذهب معظم هذه الاستثمارات ليصب في إطار الزراعات التصديرية للغرب وآسيا، على حساب الاحتياجات العربية.
فضلا عن أن هذه القرارات كانت بحصص صغيرة لصالح القطاع الخاص، وبقرارات حكومية غير جادة لم يلمس لها أثر. ومنذ عام 2007 وحتى الآن لم تنجح دولة عربية واحدة ممن اتخذوا قرار الاستثمار بالسودان من أن تخفض فاتورة وارداتها الزراعية والغذائية.
وحتى برنامج الأمن الغذائي العربي الذي قُدم للقمة الاقتصادية العربية الأولى بالكويت في عام 2009، وبتكلفة تصل إلى 36 مليار دولار، لا يزال حبرًا على ورق لا يجد من يتبناه أو يتخذ فيه خطوات على الأرض. وبدون أن يملك العرب غذاءهم فلن يحققوا أي استقرار أو تقدم اقتصادي.
ولم تكن التجارب القطرية بمنأى عن السلوك الإقليمي، فمصر تعرضت لأزمة شديدة إبان أزمة الغذاء، وتعرضت في عام 2010 لمنع روسيا لصادراتها من القمح لمصر بسبب الاضطرابات المناخية. فلم تتبن مصر برنامجًا يجنبها التعرض لمثل هذا الموقف ثانية، فأتت روسيا في ديسمبر/كانون الأول 2014 لتكرر نفس الموقف، بمنع صادراتها من القمح لمصر بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا، حيث تفضل أن يبقى محصولها للوفاء باحتياجاتها المحلية في ظل السيناريوهات المفتوحة لأزمتها مع أميركا والغرب.
والغريب أن مصر تتعرض لهذه المواقف وهي المستورد الأول للقمح في العالم، دون أن تحرك ساكنًا، أو أن تقودها الأزمة والمواقف السلبية المتكررة من اتخاذ قرار إستراتيجي بتحقيق اكتفاء ذاتي من القمح، ولو حتى اكتفاء نسبي وليس اكتفاء كاملا.
ثانيا- الأزمة المالية العالمية: كان وقع الأزمة المالية العالمية شديدًا على كافة اقتصاديات العالم، وأخذت معظم الحكومات تعيد حساباتها في فكرة الاندماج في الاقتصاد العالمي، ووضع الأمور في إطار المكاسب والخسائر، ولكن الدول العربية ظلت في سياساتها المالية والنقدية والتجارية كما هي، مع اعتماد بشكل كبير على الخارج في تدبير احتياجاتها من الواردات، في ظل تعامل تجاري بيني محدود.
وفي تكريس لاقتصاديات الريع وبخاصة من قبل الاقتصاديات النفطية، لم تستدع الاقتصاديات النفطية مشروعاتها بالعمل على بناء اقتصاديات متنوعة، أو السعي لتقوية أواصر علاقاتها الاقتصادية في محيطها الإقليمي العربي، ولكنها مارست نفس النهج بعد عام تقريبًا، حيث بدأت أسعار النفط معاودة الارتفاع، لتحيا الاقتصاديات العربية في مناخها الريعي، وسط صرخات ارتفاع معدلات البطالة لـ20%، ومرورها بثورات في محيط الربيع العربي، كانت الأسباب الاقتصادية من أهم دوافعها.
كما بقيت الدول العربية بعد الأزمة المالية العالمية أسيرة الارتباط بمنطقتي العملات الدولية الرئيسة، وهما الدولار واليورو، على الرغم مما منيت بها الاقتصاديات المرتبطة بهما من خسائر نتيجة هبوط قيمة هذه العملات بعد الأزمة، ثم انخفاض سعر الفائدة في أوروبا وأميركا لما بين 0.25% وصفر، ومع ذلك لم تفكر الدول العربية في فك هذا الارتباط، والاتجاه لسلة عملات، أو إحياء موات مشروع الستينيات وهو العملة العربية الموحدة، أو حتى العملة الخليجية الموحدة، كخطوة مبدئية تقود للعملة العربية الموحدة.
ثالثا. أزمة انهيار أسعار النفط: على الرغم من التوجيه السياسي لأزمة انهيار النفط الحالية، إلا أن تبعاتها الاقتصادية على المنطقة العربية لا تخطئها عين، فموازنات الدول النفطية العربية عادت إلى العجز مرة أخرى مع بداية عام 2015، بعد أن ودعت ظاهرة العجز في بداية الألفية الثالثة مع الطفرة النفطية الثالثة في عام 2003.
وكعادة الدول العربية، لم يجمعها أمر الأزمة لترتب مصالحها وخسائرها من الأزمة، ولكن انطلقت كل دولة للتعامل بمفردها مع الأزمة، ولم يتحرك الكيان العربي المعني بالنفط وهو “الأوابك” إلا بعد مضي نحو ستة أشهر من الأزمة.
إن أزمة النفط لا تعني الدول النفطية العربية فقط، ولكنها تمس جميع الاقتصاديات العربية، بتأثيرها على الطلب الكلي بالمنطقة حيث يتوقع له أن يمر بحالة من الركود نتيجة تخفيض الدول النفطية لإنفاقها العام بموازنات عام 2015.
تعامل الصين
كما سيؤثر هذا على العمالة العربية التي يتوقع لها تسريح جزئي في الأجل القصير، وقد يزداد تسريح العمالة إذا ما امتدت الأزمة لأجل متوسط أو طويل، كذلك برامج العون العربي التي تقدمها الدول النفطية، والتي تصل في المتوسط بحدود خمسة مليارات دولار.
النماذج الإيجابية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية متعددة، ولعل النموذج الصيني يفيد في هذا المضمار، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس النموذج الوحيد، والتفكير الصيني تجاه أي أزمة أنها تتيح فرصة، أي أن الصين بداية تمتلك تصورًا إيجابيًا للتعامل مع الأزمات.
ففي تعامل الصين مع الأزمة المالية العالمية، ومع تباطؤ النمو العالمي وتوقعات بتراجع الصادرات الصينية، اتجهت الصين للداخل لتضخ مليارات الدولارات لمشروعات البنية الأساسية ولمشروعات تحسين ظروف البيئة، وتحضر المناطق الريفية، مما أنقذ الاقتصاد الصيني من الدخول في دوامة الركود.
ولكن لحد الآن لا ينم الواقع على تغيير العرب طريقة تعاملهم السلبية مع الأزمات الاقتصادية، وبخاصة بعد ما تعرض له الربيع العربي من انتكاسات، وعودة بلدان الربيع العربي لتبني نفس السياسات الاقتصادية التي تكرس التبعية الاقتصادية للخارج، وتأصيل سلوكيات الاقتصاد الريعي، والبعد عن تبني مشروعات تنموية تنعش الإنتاج الحقيقي وتعيد بناء الإنسان.