وجهاتها تعتبر عادية: نيويورك، ولوس أنجلوس، وفورت لودرديل. لكن في حال نجاحها، فإن المقامرة التي أقدمت شركة الطيران النرويجية من شأنها أن تحول أنموذج الأعمال بالنسبة لطائرات الهيكل العريض التي تسافر مسافات طويلة.
ومنذ الشتاء الماضي، كان الركاب الذين يستقلون إحدى طائرات بوينج دريملاينر لدى شركة الطيران في كوبنهاجن قادرين على الطيران مباشرة إلى هذه المدن الأمريكية باستخدام تذاكر بنصف السعر الذي تقدمه شركات منافسة أكبر.
ثالث أكبر شركة طيران بأسعار مخفضة في أوروبا ليست الأولى التي تراهن على أعمال منخفضة التكلفة لمسافات طويلة. سبقها إلى ذلك السير فريدي ليكر في السبعينيات، وأخيرا شركة إير آسيا. لكن الشركة النرويجية تعتقد أن ظهور جيل جديد من الطائرات ذات الكفاءة في استهلاك الوقود – تقلص فاتورة الوقود التي يمكن أن تمثل ما يصل إلى نصف التكاليف التشغيلية لشركة الطيران- يجعل الشركة قادرة على البقاء.
وعن أهمية دريملاينر لأعمال شركة الطيران النرويجية، يقول بيورن كيوس، الرئيس التنفيذي للشركة: “هذه الطائرة هي سبيلنا لذلك الهدف”. ويضيف: “أجرينا حساباتنا على أنواع أخرى من الطائرات، لكن لا يمكنها أن تحقق الهدف المنشود”.
وانخفاض أسعار النفط منذ الصيف يساعد في عملية الحساب، على الرغم من أن كثيرا من شركات الطيران تتحوط في إنفاقها على الوقود. لكن الشركة النرويجية تكبدت أيضا ملايين الكرونات في التكاليف الناجمة عن مشكلات مع دريملاينر. وبحسب كيوس، من السابق لأوانه القول ما إذا كانت المشكلات التقنية قد انتهت.
إن توسيع الأنموذج منخفض التكلفة ليعمل بشكل مربح على رحلات عابرة للقارات من شأنه أن يفتح فصلا جديدا في مجال الطيران.
ووفقا لجيمس ستامب، الرئيس العالمي لقسم الطيران في KPMG: “كان أنموذج الطائرات منخفض التكلفة لمسافات قصيرة ناجحا نجاحا هائلا بحيث يبدو على السطح أن من البديهي تطبيق الأنموذج نفسه على المسافات الطويلة”. وأضاف: “كانت هناك عدة محاولات فاشلة، لأن الأسباب هيكلية تجعل تكرار الأنموذج عملية صعبة”.
وتابع: “لكن إذا تمكن شخص ما من اقتحام ذلك وإنشاء مكانة لائقة له في السوق، فإن المثال الذي وضعته شركات الطيران منخفضة التكلفة التي بدأت في وقت مبكر هو أنها تميل إلى أن تصبح مهيمنة ومن الصعب استبدالها”.
ثورة في الرحلات القصيرة
المشغلون الأصليون للشركات زهيدة التكاليف، مثل شركة الطيران الأمريكية ساوث ويست في السبعينيات، ثم ريان إير وإيزي جيت في أوروبا في التسعينيات، أحدثوا ثورة في السفر الجوي لمسافات قصيرة – ما جعل الطيران فجأة ميسور التكلفة بالنسبة لملايين الناس. وكان أنموذج بيع تذاكر الطيران بأسعار رخيصة هو الفائز والأسرع نموا بالنسبة للشركات الناشئة الجديدة التي هزت الشركات القائمة الراسخة، الأمر الذي أدى إلى استدراج عملائها بعيدا عنها وأجبرها على خفض التكاليف ردا على ذلك.
ويأمل بعضهم في أن يكون لذلك تأثير مماثل في النهاية على أعمال الطيران لمسافات طويلة. مايكل أوليري، الرئيس التنفيذي المشاكس لشركة ريان إير، لم يخف رغبته في تقديم أسعار متدنية عبر المحيط الأطلسي، إذا كان من الممكن فقط شراء الطائرة بسعر من شأنه أن يحقق صفقة جذابة.
وقال: “هناك فرصة أمام شخص ما لجعل تذاكر الطيران عبر الأطلسي منخفضة الأسعار في الرحلات الطويلة”. وأضاف: “سنكون مهتمين جدا بالقيام بذلك، إذا كان بإمكاني الحصول على بعض أسطول طائرات المسافات الطويلة بثمن رخيص”.
ومن أجل نجاح ذلك يعتقد أوليري أن الحاجة تدعو إلى وجود أسطول من عشرات الطائرات لربط المدن الأمريكية بأجزاء من أوروبا. لكن محللين يشيرون إلى حقيقة أن رئيس ريان إير لم يوضح مدى صعوبة السوق بالنسبة للطيران لمسافات طويلة.
واستثمرت شركة الطيران النرويجية، التي أطلقت قبل أكثر من 20 عاما، مبالغ ضخمة في العام الماضي للحصول على أسطول مكون من سبع طائرات دريملاينر، يرتفع ليصل إلى 17 طائرة بحلول عام 2018. والسعر الرسمي للطائرات من طراز 787-8 التي تستخدمها الخطوط النرويجية يبلغ 218.3 مليون دولار، على الرغم من أن شركات الطيران عادة ما تؤمن الحصول على خصم كبير.
لكن العملية على أرض الواقع لا تبدو ثورية على الإطلاق. في مطار كوبنهاجن تقبع طائرات 787 في مبنى المطار، حيث يقوم طاقم الصيانة بتفقد الطائرة بسرعة. في الداخل 32 مقعدا رماديا مبطنا تشكل مقصورة متميزة، مع 259 مقعدا أقل تنجيدا موجودة في الخلف.
وبصرف النظر عن كوبنهاجن، تدير شركة الطيران النرويجية أيضا رحلات طويلة من أوسلو وستوكهولم ولندن (مطار جاتويك). الحجم صغير: من جاتويك تسير الشركة رحلتين في الأسبوع إلى لوس أنجلوس وفورت لودرديل، وثلاث إلى نيويورك. وهناك صورة مماثلة في أوسلو وستوكهولم. والمنافسة قاسية، الخطوط الجوية البريطانية وحدها تسير 16 رحلة طيران في اليوم من لندن إلى نيويورك.
جني المال من المسارات
حسابات شركة الطيران النرويجية هي أن رحلات المسافات الطويلة يمكن أن تكون مربحة، على الرغم من الشكوك الواسعة النطاق.
وبحسب إحدى شخصيات الصناعة، تكلفة الطيران بالنسبة لطائرة طراز 787-9، وهو أنموذج دريملاينر الذي طلبته شركة الطيران النرويجية، من نيويورك إلى لندن تقارب 90 ألف دولار لوجهة واحدة. ويشمل ذلك الوقود والطاقم والصيانة ورسوم الهبوط والتنقل والخدمة الأرضية وتكاليف الملكية أو التأجير – لكن ليس المبيعات والتسويق والتوزيع ومكتب العمليات المساندة والنفقات العامة الأخرى، أو هامش الربح. ويتم تحميل الضرائب والرسوم التي لا تتعلق بالوقود مباشرة على الركاب.
وإذا كان لدى الطائرة 354 مقعدا، مثل طائرة 787-9، وعوامل حمولة أنموذجية – وهو مقياس لمدى امتلاء الطائرات بالكامل – فإن متوسط سعر التذكرة على رحلة في اتجاه واحد على مدار السنة بالنسبة لشركات الطيران منخفضة التكلفة، بما في ذلك الخدمات الملحقة للركاب مثل الطعام والشراب، تحتاج إلى أن تكون نحو 340 دولارا إلى 380 دولارا من أجل تحقيق هامش ربح يبلغ نحو 4 في المائة.
تكاليف الأميال المقطوعة لكل مقعد، وهو معيار آخر لقياس الصناعة، على متن الطائرات الأصغر، 787-8، أعلى قليلا، الأمر الذي يتطلب مزيدا من الإيرادات بنسبة 5 في المائة تقريبا. ووفقا لكيوس، تحقق كل طائرة من طائرات دريملاينر توفيرا بنسبة 20 إلى 30 المائة في تكلفة الوقود – وهذا المبلغ يقارب عشرة ملايين دولار في العام لكل واحدة منها – لكن تحتاج الطائرات لأن يتم استخدامها لمدة تصل إلى 18 ساعة يوميا حتى تصبح العملية مجدية.
ولأن الخطوط النرويجية تضع سعرا لتذاكر رحلاتها الجوية من لندن عبر الأطلسي عند 300 جنيه استرليني، مقارنة بسعر يراوح بين 500 و600 جنيه من الشركات المنافسة، فإن حجم طموح أنموذجها المنخفض التكلفة جريء جدا بحيث يشك كثيرون في إمكانية نجاحها في ذلك.
وقال جيرالد خو، المحلل المختص بالطيران في ليبيرام، وهي شركة للوساطة المالية: “هذا يبدو وكأنه ظهور شركة ناشئة أخرى في مجال الطيران، تحاول عمل شيء ما ثم ينفد منها المال”، مضيفا إن لم يتضح ما إذا كانت الحسابات النرويجية متناسقة وتحقق المطلوب: “لا أفهم كيف يشكل الأنموذج النرويجي أنموذجا مختلفا عن كثير من نماذج شركات الطيران الأخرى التي حاولت وفشلت”.
تجارب فاشلة
وكانت شركة طيران صاحبة المشروع البريطاني اللامع، ليكر، أولى الشركات التي حاولت الطيران بأسعار مخفضة عبر الأطلسي، مطلقة رحلة بسعر 59 جنيها ـ هذا السعر لم يكن بعيدا عن متوسط الأجر الأسبوعي الإجمالي في عام 1977. وتمتعت الشركة بشعبية كبيرة لدى الجمهور، إذ كان سعر التذكرة أقل بكثير من المتوسط البالغ 100 جنيه التي كانت تتقاضاها شركات منافسة، مثل الخطوط الجوية البريطانية وبان آم. لكن بعد خمس سنوات كان ليكر مفلسا، وتم القضاء على المشروع بسبب تدهور الاقتصاد ومشكلات الطائرات والمنافسة. وفي العام التالي، اختبرت شركة الطيران الأمريكية منخفضة التكلفة “بيبول إكسبرس” رحلات الطيران عبر الأطلسي، لكن انهارت بعد خمس سنوات؛ لأن ذلك كان فوق طاقتها وتعرضت لمشكلات إدارية.
ثلاث شركات طيران كانت تشغل درجة رجال الأعمال فقط، وهي سيلفرجيت، وشركتا طيران ماكس جت وإيوس في الولايات المتحدة، جميعها جربت الرحلات عبر الأطلسي قبل أن تفلس بين عامي 2007 و2008.
لكن كيوس، وهو طيار سابق، ليس وحده في رهانه على السفر الجوي. لوفتهانزا أيضا تسعى لتأسيس أعمال طيران منخفض التكلفة لمسافات طويلة. وقال الرئيس التنفيذي، كارستن سبور، إنه يمكن تشغيل رحلات لا تحتوي على الميزات غير الضرورية إلى وجهات لقضاء العطلات، مثل سيشيل، أو إلى مدن في الصين في أواخر عام 2015، كجزء من التجديد، ولدرء شركات الطيران منخفضة التكلفة وتلك الموجودة في الشرق الأوسط.
فما مدى قرب الخطوط النرويجية من الربحية على خطوطها عبر الأطلسي؟
يقول كيوس إن العملية “بدأت بالاستقرار”، دون أن يعطي أي تفاصيل بشأن متى ستصبح مسارات الرحلات هذه مربحة. وكما يقول، تعمل الطائرات على كل المسارات وهي ممتلئة بالركاب بنسبة تراوح بين 80 و90 في المائة. ويجري التخطيط لتوسيعها، مشيرا إلى أن باريس وبرشلونة وروما على قائمة الرحلات طويلة المدى، وذلك كجزء من استراتيجية الشركة النرويجية لاستهداف السوق السياحية. وستضاف حركة مرور على المسارات القائمة اعتبارا من عام 2016، وهو الموعد المقرر لتسلم طائرات 787-9.
ويؤكد كيوس أن شركة الطيران النرويجية ستكون قادرة على الاحتفاظ بميزتها حتى عندما تتسلم الشركات المنافسة لها الطائرات الاقتصادية في استهلاك الوقود، بحجة أنها لا تزال لديها قاعدة تكلفة أقل “إذا خفضوا الأسعار، نعلم أن من شأن هذا أن يدفع الحجم. وبعد ذلك سيكون هناك ما يكفي للجميع”.
ويعترف كيوس بأن تجربة الشركة في الرحلات بتكلفة منخفضة لمسافات طويلة ربما تكون صغيرة جدا في البداية على نحو لا يهدد شركات الطيران الكبرى التي تسير رحلات عبر الأطلسي. ويقول: “من أجل الطيران بانطلاقة جيدة، قد تحتاج إلى مزيد من دريملاينر، ربما ضعف هذا العدد”.
سياسة الحماية
لكن ليست الطاقة وحدها هي ما يهدد العملية الوليدة. فالشركة النرويجية تخوض نزاعا مع السلطات الأمريكية حول المزيد من حقوق الطيران، رغم اتفاق الأجواء المفتوحة مع أوروبا.
وقد احتجت نقابات الطيارين وشركات الطيران المنافسة ضد ما تعتبره طرقا إبداعية نرويجية لعصر التكاليف. فقد حصلت شركة الطيران على رخصة تشغيل إيرلندية التي يقول منتقدون إنها محاولة لتجنب ارتفاع تكاليف الأيدي العاملة النرويجية، كما توظف أطقم طائرات من تايلاند. وفشلت اجتماعات بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في كسر الجمود، ما يعني أنه لا يمكن لشركة الطيران الحصول على حقوق لتشغيل طائرات أمريكية عن طريق ترخيصها الإيرلندي.
وتزعم النقابات أن الفوائد من التذاكر الرخيصة على المدى القصير ستأتي على حساب الاستقرار في هذه الصناعة على المدى الطويل، ما يقود إلى خفض الأجور والمعايير. وتشكل اليد العاملة خمس التكاليف الإجمالية للشركة النرويجية.
ويقول كيوس إن منافسيه يخشون من المنافسة وإن الشركة ستعمل على رحلات جوية من إيرلندا – وليس فقط استخدام الرخصة باعتبارها وسيلة لدخول أسواق أخرى. والنرويج ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، وبذلك لا تشكل جزءا من الاتفاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وآسيا، على عكس إيرلندا.
ويلاحظ نقاد أن من الأمور الأخرى التي تقف أمام فرص نجاح شركة الطيران الإسكندنافية، المعدل السريع لتوسعها، وهو ما يردد أصداء الشركات السابقة التي حاولت وفشلت من قبل.
ما تحاول الشركة النرويجية فعله يعتبر “صعبا بشكل هائل”، كما يقول أوليري، فهي تقوم في وقت واحد بترتيب رحلات لمسافات قصيرة وطويلة المدى. ويضيف: “على الرغم من أنهم يسيرون رحلات لمسافات طويلة إلا أنهم لا يعيرون تنمية الأعمال على المسافات القصيرة اهتماما”، مشيرا إلى النتائج نصف السنوية في تموز (يوليو) التي قادتها للمديونية، مع بلوغ خسائر التشغيل قبل الضرائب والفائدة، 85 مليون كرونة.
الاتجاه شرقا
ويرى مراقبون أن الفرصة الحقيقية من أجل بناء الأعمال التجارية منخفضة التكلفة تكمن في تسيير رحلات طويلة في آسيا. وقال كريس تاري، وهو مستشار في شؤون الطيران: “إذا نظرنا إلى وجهة النظر الأساسية للكيفية التي تتطور بها السوق في أوروبا، ستكون من خلال حركة المرور الترفيهية الواردة من آسيا”. وأضاف: “إن أسواق النمو موجودة في الصين وجنوب شرقي آسيا”.
وفي حين أن لدى شركة إير آسيا بعض النجاح في المنطقة، إلا أن التحدي بالنسبة للشركات الأوروبية، مثل النرويجية، هو بناء أنموذج أعمال مربح منخفض التكلفة لتسيير رحلات طويلة. وعلى الرغم من العوائق التي لا يستهان بها أمام النجاح، يصر مختصو الصناعة على أن شخصا ما سيتمكن من إنجاح الأنموذج.
ويقول أحد المحللين: “ما سيحدث في نهاية المطاف هو قيام شخص بإيجاد طرق للتغلب على قيود صناعة الطيران المعقدة التي لا تزال موجودة، من أجل تطوير أنموذج أقل تكلفة للمسافات الطويلة المدى وكذلك القصيرة المدى”.