“أليس من الأجدى أن يكتفي رمزنا الأشهر الدب الروسي بأكل الثمار البرية ويرتاح”؟ تساءل الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحفي الخميس الماضي . وسرعان ما استدرك بقوله: لا . فهم “في إشارة إلى الولايات المتحدة والغرب” لن يتخلوا عن محاولات تقييده بالسلسلة . وما أن ينجحوا في ذلك، سيقتلعون أنيابه وبراثنه . وهي في فهمنا اليوم قواتنا للردع النووي . وإذا حدث ذلك “لا سمح الرب” فسيصبح الدب لا يصلح إلا لتحنيطه، وسيبدأون في نهب الغابة . لذلك فليس القرم هو الأمر، فنحن ندافع عن استقلالنا وسيادتنا وحقنا في الوجود، وهو ما يجب على الجميع إدراكه .
رجل الاستخبارات الماكر، الذي نجح في إقصاء كل مناوئيه لينفرد بقيادة روسيا من قاعة المرايا في الكرملين، لم تنهكه العقوبات الاقتصادية الغربية على خلفية احتلال القرم فحسب، بل يبدو أنه شرع في ارتكاب أخطاء استراتيجية . ها هو يستحضر بفظاظة قوة روسيا النووية وأنيابها الضاربة، للرد على عقوبات من طبيعة اقتصادية . ولاستشعار الشعب الروسي بعنفوانه القومي، كما ذكرنا في مقال سابق “أجراس العقوبات في الكرملين” . (20-11-2014) .
الخطأ الأول، أن “براثن الدب النووي الروسي” سلاح لا يمكن إعماله في الألفية الثالثة، حتى في حال أزمة من طبيعة أمنية عسكرية . وهو سلاح معنوي للرعب الاحتياطي في مقابل أسلحة مماثلة متاحة في الترسانة الغربية التي “تريد تصفيد الدب الروسي” . بينما السلاح الاقتصادي مادي وقابل للاستخدام في أي لحظة، وقادر على النفاذ إلى عمق المجتمع الروسي ومجتمعات الدول قاطبة . ومن الحمق أن يعتقد صاحب الحزام الأسود في الكاراتيه والجودو، إنه يمكن استخدام مهاراته المتنوعة في علاقاته السياسية والاقتصادية الدولية . وما العقوبات الاقتصادية سوى نتيجة اختبار هذه المهارات في ضم شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا . وقد أصر بوتين في مؤتمره الصحفي على أن العقوبات “ليست في مقابل القرم، بل ثمن ندفعه لنحافظ على وجودنا وحضارتنا” .
الخطأ الثاني ما أشكل على بوتين، أو ما تجاهله هو التحول البراغماتي في مفهوم الإمبريالية ووسائلها . فما كان يلخص هذا المفهوم ويدعمه بتحريك الأساطيل جواً وبحراً وبالصدام العسكري المباشر، لإخضاع الشعوب والسيطرة على مقدراتها الاقتصادية ومواردها الطبيعية وفتح أسواقها، حلت محله في زمن الاندماج الاقتصادي الدولي والعولمة الاقتصادية تشريعات اقتصادية ومالية ومصرفية دولية ملزمة لا فكاك منها، سوى بالعزلة عما يسمى “النظام الاقتصادي الدولي” . وروسيا بوتين شريك في ذلك النظام المحصن بإرادات سياسية تدعمها “دببة نووية” لحماية مصالحها الاقتصادية .
الخطأ الثالث، رهان بوتين على علاقات روسيا القوية مع دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا، لكسر أي عقوبات اقتصادية دولية وأمريكية على وجه الخصوص، لاسيما بعد أزمتي المديونية والنمو اللتين تعصفان بمنطقة اليورو ودول الاتحاد على نحو أعمّ . وقد تأكد المؤكد، بأن الدول الأوروبية وألمانيا خصوصاً، التي تكبدت خسائر من العقوبات على الشريك الروسي، نتيجة تراجع اقتصاده واقترابه من الركود، ليس في وارد التخلي عن الحليف الأمريكي الاستراتيجي . فكيف إذا كان الأمر يتصل بالفناء الأوروبي واحتلال روسيا جزءاً من بلد أوروبي يرغب في عضوية الاتحاد؟
الخطأ الرابع، رهان بوتين المبالغ فيه على سلاح النفط وإمدادات الغاز إلى أوروبا . والحكومة الروسية تعلم بوجود فائض نفطي كبير في الأسواق الدولية كانت روسيا من خارج دول “أوبيك” المستفيد الرئيسي منه . نفي بوتين وجود نية ضد روسيا لخفض أسعار النفط عمداً، تأكيد على قدرة خصومه السياسيين الدوليين على تبخيس سعر المورد الحيوي للاقتصاد الروسي ومصدر تمويل نحو 50 في المئة من الموازنة العامة واحتياطات المصرف المركزي الروسي .
الخطأ الخامس دعوة بوتين أصحاب الرساميل الروس الذين خرجوا مع ثرواتهم من روسيا إلى العودة من جديد وشرعنة أموالهم وممتلكاتهم، “من دون سؤال أصحابها عن مصادر أموالهم، وإعفائها من الضرائب وإسقاط كل الدعاوى المرفوعة ضدهم” . كلام كبير دونه مخاطر . لا أحد يعلم بدقة حجم الرساميل التي خرجت من روسيا ومن أفواه الشعب الروسي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي . التقديرات الرسمية الروسية إنها بنحو 200 مليار دولار أمريكي . التقديرات الغربية تقدرها بنحو 500 مليار حداً أدنى . هناك مئات الدعاوى التي رفعت منذ ولاية بوتين الأولى ضد رجال أعمال روس ومسؤولين سابقين تولوا بيع منشآت عامة زمن الانفتاح . بين هؤلاء “رفاق سابقون” وأتراب لبوتين في أجهزة أمنية وعسكرية سهلوا عمليات الخصخصة وكان لهم من منافعها . وكلها عمليات تندرج في غسل الأموال وتحتاج إلى قوانين مضادة لمكافحة تبييض الأموال وتشريعاتها محلياً ودولياً . إلى ذلك، يفهم من كلام الرئيس الروسي وكأنه دعوة إلى جنة ضريبية في موسكو لرجال الأعمال الروس في الخارج، لاسيما في الولايات المتحدة وأوروبا . وكلاهما اختراق معايير مكافحة غسل الأموال والتهرب الضريبي لن يمر بسهولة ودونه مشكلات عويصة داخلية ومع الخارج . كسر بوتين الزجاج هنا من دون ضمانات بعودة المستثمرين والرساميل .
الروبل ينهار . الاحتياط يستنزف . والاقتصاد إلى ركود في بلد من الأغنى بموارده عالمياً . السؤال: إلى متى وقد طاشت سهام بوتين؟