انخفضت اسعار النفط بمقدار 45٪ منذ يونيو الماضى، وهى أخبار طيبة للدول المستوردة للنفط ولكنها أخبار سيئة بالنسبة لروسيا وفنزويلا ونيجيريا وغيرها من الدول المصدرة للنفط.
ويعزو البعض هذا الانخفاض للانتعاش فى الطاقة التى تأتى من الزيت الصخرى فى الولايات المتحدة الامريكية، وفشل الأوبك فى الموافقة على تقييد العرض. لكن البعض الآخر يرجع هذا الانخفاض إلى تباطؤ الاقتصاد العالمى، الذى خفض من الطلب على الطاقة والمعادن والمنتجات الزراعية، والتغيرات التكنولوجية الأطول أمدا، التى من شأنها أن تزيد من كفاءة استخدام الوقود وأن تحث على استخدام الطاقة الشمسية وغير ذلك من مصادر الطاقة غير النفطية. وتعكس الزيادة فى المعروض المحتمل فى المستقبل ناتجاً جديداً يستخرج بطريقة التكسير الهيدروليكي، فضلاً عن تطوير رمال القطران فى كندا، والقرار الذى اتخذته المكسيك مؤخراً بالسماح لشركات النفط الأجنبية بتطوير مصادر الطاقة فى البلاد. لكن التفسير الأكثر دقة هو عودة الحرب البارد من جديد، فالانقسامات القديمة عادت إلى الظهور من جديد فى هيئة مختلفة. ورغم إعلان نهاية الحرب الباردة فى أوروبا فإن الحقائق تؤكد أنها لم تنته فعلياً قط. بل إن الحرب الباردة الجديدة تضم أطرافا جددا لم تكن فاعلة من قبل. فانخفاض أسعار النفط إلى مستويات أدنى قد يؤدى إلى عواقب جيوسياسية كبيرة. فانخفاض سعر البرميل إلى ما دون 60 دولارا من شأنه أن يخلق مشاكل حادة فى روسيا بشكل خاص. ذلك أن الرئيس بوتين لن يظل قادرا على الحفاظ على برامج التحويلات المالية التى تدعم مستويات دعمه الشعبى حاليا. وسوف تكون العواقب مماثلة فى إيران وفنزويلا. ويعرب البعض عن شكوكهم فى وجود اتفاق ضمنى بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة يهدف، بين أمور أخرى، إلى إضعاف منافسين سياسيين مثل روسيا وإيران. ورغم أن المملكة العربية السعودية والعديد من بلدان الخليج هى أيضا من الدول الرئيسية المصدرة للنفط، فإنها تختلف عن غيرها من الدول المنتجة من نواح ثلاث: فأولا: إن الأوبك كانت، وسوف تظل، على غير علاقة بقوى السوق على أرض الواقع. فالأوبك لم تتمتع قط بقوة سوقية، ولكن المملكة العربية السعودية تتمتع بقوة سوقية، وكانت قوة السوق السعودية تعزى دوما وعن طريق الخطأ للأوبك. وهذا درس تعرفه الولايات المتحدة جيدا. وثانيا: أن تكاليف استخراج النفط فى السعودية ودول الخليج الأخرى منخفضة للغاية، وهذا يعنى أنها سوف تتمكن من الإنتاج بهامش ربح معقول بالأسعار الحالية ــ أو حتى عند مستوى أقل كثيرا من الأسعار. وثالثا: تسمح الاحتياطيات المالية الهائلة لهذه الدول بتمويل أنشطتها المحلية والدولية لفترة طويلة، فى حين تسعى إلى تحويل اقتصاداتها للحد من اعتمادها على عائدات النفط.
وقد وضح تماما أن أمن الطاقة الذى عرفناه طوال أكثر من خمسة عقود والذى كان يعنى توافر الإمدادات الكافية من الطاقة بأسعار معقولة، لم يكن سوى سراب فى عقل المفكرين وصناع القرار الاستراتيجى فى كثير من دول العالم لتتضح الصورة بعد غياب طويل لنرى أن المشكلة الأمنية الحقيقية تأتى إذن من قوة السوق، ومن نظام الأسعار الذى يتحكم فيه اتحاد احتكارى يملى الأسعار المرتفعة المصطنعة التى ما كانت لتصل إلى مثل هذه الارتفاعات أو تنخفض بهذا المنحنى بسرعة بعيدة عن أبسط القواعد الاقتصادية التى درسناها وعشنا ونمنا عليها فى سوق تنافسية. وكما قلنا فى مقالات سابقة إن سوق البترول ليست كسائر الأسواق تخضع للعرض والطلب بل هى سوق مشترون هم الذين يحددون السعر ومدى الفوائد المتحصلة منه. وليس أدل على ذلك، أن فى وسط المعارك والأحداث والاضطرابات الجارية فى الشرق الأوسط، وبالأخص فى المنطقة العربية التى تتحكم فى أكثر من 60٪ من الاحتياطى النفطى وغياب النفط الليبى واليمنى تنخفض الأسعار ولا يرتفع سعر برميل النفط إلى 200 دولار . فانخفاض الأسعار كشف النقاب عن اللعبة الأمريكية التى غابت عنا طوال العقود الماضية.
اما عن مجموعة الدول المدينة المصدرة للنفط، مثل المكسيك وفنزويلا واندونيسيا ونيجيريا ومصر، فإن الأثر هنا سيكون شديد الوطأة وأليما جدا. ذلك ان صادرات النفط فى تلك الدول أصبحت تشكل أحد أهم مصادر النقد الأجنبى لها. ومن هنا، فإن هبوط أسعار النفط، وما سيجره ذلك من انهيار شديد فى عوائد تصديره، سوف يضعف تماما من قدرة هذه الدول على سداد ديونها الخارجية، وسيجبرها على التعرض للضغوط الخارجيه (ضغوط الدائنين وصندوق النقد الدولى). كما أن تدهور أسعار النفط سيجعلها تواجه حرجا شديدا فى تعاملها الخارجى نظرا لما سينجم عن ذلك من تزايد فى عجز موازينها التجارية، ومن ثم ستزيد حاجتها للقروض الخارجية. لكن هناك وجها إيجابيا لهذا التدهور. وهو أنه من المتوقع أن يؤدى انخفاض أسعار النفط الى هبوط أسعار كثير من السلع والمنتجات التى تستور ولكن من المؤكد، أن ما ستحققه هذه الدول من خسارة من جراء انخفاض عوائدها النفطية سيكون أكبر بكثير من حجم المزايا المحتملة من انخفاض أسعار وارداتها .
لكننى، مع ذلك، أسارع بالتنبيه هنا بأن هذا الوجه المشرق لأثر انخفاض أسعار النفط سرعان ما يتلاشى تماما إذا ما اخذنا بعين الاعتبار أثرا سلبيا هاما سيظهر لهذه الدول ذلك أن عددا كبيرا من تلك الدول سيتضرر من هبوط أسعار النفط من خلال انهيار تحويلات عمال تلك الدول العاملين فى بلاد النفط، حيث تعاظمت أهمية هذه التحويلات كمصدر هام للنقد الأجنبى منذ السبعينيات وحتى اليوم من جراء ظاهرة «الهجرة للنفط» وبالذات فى منطقة الخليج العربى، التى هبطت عوائدها من النفط بشكل مروع، قد توقفت الكثير من المشروعات وخطط التوسع الاقتصادى وهى تتعرض الآن لموجة واضحة من الركود والكساد.
أما مجموعة الدول المدينة غير النفطية، فإنها ستسفيد من انخفاض أسعار النفط، نظرا للوفر الكبير الذى سيحدث فى كلفة استيرادها للوقود والمنتجات النفطية. وهو أثر عظيم الشأن لهذه الدول، لأن قيمة وارداتها من النفط ومنتجاته إنما تمثل نسبة كبيرة من إجمالى وارداتها السلعية. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن انخفاض أسعار النفط ربما سيزيد من قدرتها على الوفاء باعباء ديونها الخارجية، وتخفيض العجز فى موازينها التجارية.
كما أن ارتفاع سعر النفط وانخفاضه دون أسباب معقولة، ودون دراسة دقيقة لاتجاهات الطلب العالى والعوامل التى تحكمه، يؤثر على خريطة الطاقة . فارتفاع الأسعار قد يؤدى ذلك إلى أنه يصبح من الأفضل للدول المتقدمة اقتصاديا أن تنحو نحو استغلال مصادر الإنتاج المحلى من هذه المادة، التى كان استغلالها يتطلب نفقات باهظة فى الفترات الماضية. فإذا ارتفع السعر العالى للمادة الخام بشكل يفوق أعلى النفقات الحدية للانتاج فى هذه الدول، لكان من مصلحة الدول المستوردة أن تنتج هذه المادة. بالإضافة إلى أن ارتفاع السعر وإمعانه فى الارتفاع سوف يدفع بالابحاث العلمية للتطوير الجاد فى هذا المجال. وقد يتمخض ذلك عن استحداث بدائل صناعية تحل مكان المادة الخام التى كون منتجوها اتحادا لهم وتمكنوا من رفع سعرها عاليا. ومن هنا، فإنه من الأفضل- كما يقولون، بدلا من البحث عن الحد الأعلى للأسعار، العمل على إيجاد أسعار مثلى تمنع وتحد من وجود القوى السلبية. أما إذا انخفضت الأسعار بشكل كبير كما هو حادث اليوم فلن يجعل مصادر الطاقة المتجددة أقل قدرة على المنافسة الآن فحسب، بل من شأنه أيضا أن يعرقل قدرتها على المنافسة فى المستقبل من خلال تثبيط البحوث والاستثمارات. وبشكل أكثر عموما، قد يؤدى هذا إلى تقليص الحافز بين المستهلكين والشركات والحكومات لتبنى ممارسات أكثر كفاءة فى استخدام الطاقة.
والواقع أن انخفاض أسعار النفط خبر طيب بالنسبة لاقتصاد الولايات المتحدة، لأن هذا يعنى ضمنا ارتفاع الدخول الحقيقية للمستهلكين الأمريكيين. وداخل الولايات المتحدة، تعمل الأسعار المنخفضة على تحويل الدخل الحقيقى من منتجى النفط إلى الأسر الأمريكية، الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع الطلب فى الأجل القريب لأن الأسر تنفق نسبة أعلى من دخولها مقارنة بما تنفقه شركات النفط. ولنفس السبب، تعطى الأسعار المنخفضة دَفعة للطلب الكلى فى أوروبا وآسيا ومناطق أخرى مستوردة للنفط. غير أن الانخفاض الحاد فى أسعار النفط يوفر فرصة سياسية نادرة لإدخال المزيد من تسعير الكربون. ذلك أن إحدى الحجج الرئيسية ضد «ضريبة الكربون» كانت أنها قد تجعل الطاقة أكثر تكلفة، لكن ضريبة الكربون يمكن تقديمها الآن من دون زيادة أسعار الطاقة للمستهلكين. والنقطة الأخرى التى يجب أن نأخذها فى الحسبان أن كثيرا من أسعار السلع والمعادن سايرت هبوط أسعار النفط، فنزل سعر خام الحديد أيضا وكذلك نزلت أسعار الذهب والفضة والبلاتنيوم والأمر نفسه ينطبق على أسعار السكر والقطن وفول الصويا . كما يجب أن نفرق بين مؤشر الأسعار المرتبط بالدولار ومؤشر الأسعار المرتبط باليورو حتى نقف على حقيقة هبوط أسعار السلع . فمؤشر أسعار السلع المرتبط باليورو والخاص بالايكونومست على سبيل المثال قد ارتفع فى العام الماضى مما يعنى أن المؤشر المرتبط بالدولار فقط – الذى يحصل على كامل الاهتمام- هو الذى تعرض للهبوط. وهذا يقودنا الى السياسة النقدية علما بان اهميتها فى تحديد أسعار السلع عادة ما يتم نسيانها. أن هناك توقعا على نطاق واسع بتشديد السياسة النقدية فى الولايات المتحدة الامريكية حيث انهى الاحتياطى الفيدرالى التخفيف الكمى فى أكتوبر الماضى ومن المرجح أن يرفع أسعار الفائدة قصيرة المدى فى وقت ما من العام القادم. فهبوط أسعار الفائدة الحقيقية المتوالية منذ السبعينيات قد رافقها ارتفاع الأسعار الحقيقية للسلع. ان الارتفاعات الحادة فى أسعار الفائدة الحقيقية فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الثمانينيات قد أدى الى تهاوى أسعار السلع بالدولار. فعندما يبدأ الاحتياطى الفيدرالى «بطبع الأموال» فإن الأموال تتدفق على السلع مما يرفع من سعرها وهكذا تبدأ الأسعار بالهبوط عندما ترتفع أسعار الفائدة . فأسعار الفائدة المرتفعة تخفض من سعر السلع القابلة للتخزين وذلك عن طريق زيادة الحافز للاستخلاص اليوم بدلا من الغد مما يعزز من رتم ضخ النفط واستخلاص الذهب من المناجم. ثانيا، أن أسعار الفائدة العالية تقلل كذلك من رغبة الشركات فى حمل المخزونات (مثل النفط الموجود فى الخزانات ). وتشجع أسعار الفائدة المنخفضة المنتجين على ترك النفط فى الأرض. وعندما تتجه أسعار الفائدة الطويلة الأجل الحالية المنخفضة بشكل غير طبيعى إلى الارتفاع على مدى السنوات القليلة القادمة، فسوف تصبح زيادة المعروض من النفط واستثمار الدخل الناتج عن ذلك بأسعار فائدة أعلى أكثر جاذبية لدى المنتجين. كما أن أسعار الفائدة المرتفعة تقوى العملة المحلية مما يخفض من سعر البضائع المتاجر بها عالميا بالبنود المحلية. وأخيرا فإن آفاق التشديد النقدى الأمريكى تتصادف مع التحركات من قبل البنك المركزى الأوروبى وبنك اليابان تجاه التحفيز المالى المعزز. ان النتيجة كانت ارتفاع سعر الدولار مقابل اليورو والين . لقد انخفض اليورو 8٪ مقابل الدولار منذ النصف الاول من العام وانخفض الين 14٪ وهذا يفسر كيف أن العديد من أسعار السلع قد انخفضت بالدولار وارتفعت بالعملات الأخرى. وكما أشرنا فى مقالات سابقة عن قرار البعد عن الدولار الذى اتخذه صدام حسين كان كفيلا بحيثيات الهجوم على العراق. وهنا يتضح أن العوامل المتصلة بتحديد أسعار النفط بأى عملة مفردة أعقد مما يتصوره الخبراء الاقتصاديون، فما بال العامة من الناس. فالزيارات الأمريكية المتكررة إلى بلدان الشرق الأوسط تهدف دعم وتأييد ربط سعر صرف عملات هذه البلدان بالدولار، بينما تشن أمريكا دوما هجوماً عنيفاً على الدول الآسيوية لعدم سماحها لعملاتها بالارتفاع بشكل أسرع فى مقابل الدولار. وأخيرا علينا أن نؤكد لصناع القرار وخبراء الاقتصاد أن النفط لن ينفد من العالم فى أى وقت قريب. حتى فى ظل الطلب المتنامى من قِـبَل الصين والهند. فمن الثابت حتى الآن أن الاحتياطيات تفوق كل التوقعات، ومن المرجح أن يتم اكتشاف المزيد.