محمد إبراهيم السقا
تناولنا في مقالين سابقين، أسباب تراجع أسعار النفط والمسارات المتوقعة لها، اليوم أتناول الآثار التي يمكن أن تترتب على استمرار تراجع أسعار النفط، والحقيقة أننا لن نجد سلعة تتعدد آثارها على النطاقين المحلي والعالمي مثل النفط، الذي يعد بمثابة الدم الذي يسري في شريان الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، لذلك تحمل تقلبات أسعار النفط ارتفاعا أو انخفاضا آثارا متشعبة، فتراجع أسعار النفط يحمل آثارا إيجابية وسلبية في ذات الوقت، مثلما هو الحال عندما ترتفع الأسعار، لكن الصورة تنقلب في هذه الحالة.
تتمثل أهم الآثار الإيجابية لتراجع أسعار النفط في أنه يحمل أخبارا سارة للدول المستوردة للنفط، التي تستفيد من انخفاض الأسعار باستيراد هذه المادة الحيوية بتكلفة أقل، وعندما تتراجع أسعار النفط تنخفض التكاليف بالنسبة لقطاع الأعمال، وتنخفض بالتبعية الأسعار بالنسبة للمستهلكين، وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب الاستهلاكي، أكثر من ذلك فإن انخفاض التكاليف يحفز المستثمرين على مزيد من الاستثمار، الأمر الذي يرفع معدلات النمو، لذلك يعتقد بعض المراقبين أن التراجع الحالي لأسعار النفط سيساعد على تعزيز معدلات النمو في الدول المستوردة.
في المقابل فإن تراجع أسعار النفط يحمل آثارا كارثية على الدول المصدرة للنفط، سواء تلك الأعضاء في “الأوبك” أو خارج “الأوبك”، وبالطبع تختلف حدة آثار هذا التراجع بين مختلف الدول النفطية حسب حالة كل دولة على حدة، على سبيل المثال فإن دولا مثل روسيا وفنزويلا ونيجيريا وإيران تعاني آثارا سلبية حادة، لا يقتصر أثرها على تراجع معدلات النمو الاقتصادي وإنما يطول أيضا عملات هذه الدول التي تتراجع على نحو واضح مع تراجع أسعار النفط، خصوصا بالنسبة للدول التي ليس لديها احتياطيات كافية تمكنها من التدخل على نحو كاف في أسواق النقد الأجنبي للدفاع عن عملاتها في مواجهة الطلب المرتفع على العملات الأجنبية في أسواق النقد الأجنبي فيها.
على الجانب الآخر فإن هناك بعض الدول المصدرة تمكنت من تكوين احتياطيات مالية كافية تؤهلها للتعايش مع تراجع الأسعار لفترة لا بأس بها، وهو الذي ربما يفسر عدم قلق هذه الدول، أو عدم تعجلها في اتخاذ موقف موحد في مواجهة الضغوط في السوق النفطية، إلا أنه إذا ما استمرت أسعار النفط في التراجع على النحو الحالي، فإن الاحتياطيات التي تراكمت في السنوات السمان عرضة لخطر التآكل السريع، فلم تعد الأسعار المنخفضة للنفط تتوافق مع احتياجات الإنفاق العام في الدول النفطية، وعودة العجز إلى الميزانيات سيكون أهم سمات السنوات المقبلة لميزانيات الدول النفطية لو استمر النفط في التراجع.
من ناحية أخرى، فإن تراجع أسعار النفط في الفترة الزمنية الحالية له مخاطر ذات طبيعة خاصة بحكم أن دول العالم الصناعي تعاني اليوم مشكلة تراجع معدلات التضخم إلى مستويات منخفضة جدا، وهو ما يعني أن تراجع أسعار النفط قد يؤدي إلى تعميق حدة الانكماش السعري الذي تعانيه اقتصادات عدة في العالم وعلى رأسها أوروبا واليابان. فمن المعلوم أن البنوك المركزية في العالم تتحول اليوم نحو استهداف معدل منخفض للتضخم، وتتبع البنوك المركزية قواعد نقدية محددة للتدخل لإبقاء معدل التضخم حول مستوياته المستهدفة، وعندما تتراجع أسعار أهم المدخلات في العالم وهو النفط، فإن ذلك الأمر يحمل أخبارا سيئة للغاية للبنوك المركزية في العالم، حيث يؤدي تراجع أسعار النفط إلى الضغط على التضخم نحو التراجع بصورة أكبر، وهو ما يصعب من مهمة البنوك المركزية في سبيل الوصول إلى معدلات التضخم التي تستهدفها.
قد تبدو فرضية تعزيز النمو المصاحبة لتراجع أسعار النفط صحيحة من الناحية النظرية إذا كنا نتحدث عن ظروف اقتصادية عادية، غير أنه في ظل ظروف الانكماش السعري في العالم، فإن تراجع الأسعار الناجم عن انخفاض أسعار النفط قد لا يشجع نمو الطلب، بل على العكس من الممكن أن يثبطه، وذلك استنادا إلى فرضية أن المستهلكين في ظل ظروف تراجع الأسعار غالبا ما يقللون من الإنفاق استنادا إلى توقعاتهم باستمرار تراجع الأسعار بصورة أكبر في المستقبل، كما أن المستثمرين لا يقدمون على الاستثمار في ظل هذه الظروف بسبب حالة عدم التأكد حول مسارات المستوى العام للأسعار في المستقبل التي تصاحب حالة الانكماش السعري، وكذلك عدم التأكد حول المستويات المستقبلية ومن ثم الأرباح ومعدلات العوائد المستقبلية المقدرة للمشاريع الاستثمارية.
كذلك يترتب على الانكماش السعري تزايد أعباء الديون، وهو أحد المخاطر الرئيسة المحيطة بمنطقة اليورو التي تواجه أزمة ديون سيادية في الوقت الحاضر، ما يصعب من مهمة تخفيض معدلات الديون إلى الناتج في هذه الدول.
أكثر من ذلك فإن مثل هذه السياسات تؤدي إلى مخاطر أخرى، فحيث لا تجدي حاليا محاولات ضخ تريليونات الدولارات في الأسواق النقدية في العالم للخروج من حالة الكساد، فإن هذه الكميات المضافة من النقود تتحول إما إلى احتياطيات أو إلى وقود في البورصات يغذي بالونات أسعار الأصول المالية، وهو ما يزيد من مخاطر عدم الاستقرار المالي في العالم ويعزز مخاطر انهيار الأسواق مع تراجع أسعار الأصول.
كذلك ترتب على تراجع أسعار النفط اختلال العلاقة بين العملات المختلفة في العالم، حيث تواجه الولايات المتحدة ارتفاعا في قيمة الدولار، في المقابل تتراجع قيم عملات اقتصادات الأسواق الناشئة في العالم، بصفة خاصة تلك التي يعتمد هيكل صادراتها على النفط مثل عملات روسيا وفنزويلا ونيجيريا وإيران والنرويج. بالطبع تتمتع العملات الخليجية حاليا بالاستقرار بالنسبة للدولار، ما عدا الدينار الكويتي، وذلك لاختلاف آليات تحديد معدل الصرف في دول الخليج، حيث تتبع الكويت نظام سلة العملات، بينما تربط باقي الدول عملاتها بالدولار بصورة جامدة.
من الأمور المثيرة للاهتمام أن تراجع أسعار النفط قد بدأ بالفعل في التأثير في صناعة النفط الصخري، وهو أحد الأهداف المعلنة لـ “أوبك” في الوقت الحالي من سياسات عدم تخفيض العرض، إذ تشير التقارير إلى أن العمالة في هذا القطاع بدأت في التراجع، ما يزيد من ضغوط سوق العمل حول فتح فرص عمل جديدة. كذلك هناك مخاطر أخرى مرتبطة بتراجع الإنتاج من النفط الصخري المتمثلة في احتمالات حدوث مشكلة مالية قد تؤثر بشكل محدود في النظام المالي الأمريكي نتيجة لفشل كثير من الشركات المنتجة للنفط الصخري في خدمة ديونها، حيث يتم تمويل هذه الشركات أو قطاع كبير منها من خلال ما يسمى بالسندات الرديئةJunk Bonds نظرا لارتفاع المخاطر المصاحبة للاستثمار في صناعة النفط الصخري، ومن المتوقع أن تتأثر سوق هذه السندات بهذه التطورات. التأثير في إنتاج النفط خارج الـ “أوبك” لا يقتصر على النفط الصخري، وإنما تواجه بعض آبار النفط في بحر الشمال مخاطر الإغلاق في ظل الأسعار الحالية، حيث ترتفع تكلفة الإنتاج بصورة واضحة في هذه الآبار، التي تزيد على 60 دولارا. كما أن بعض المشاريع الاستثمارية للإنتاج في بحر الشمال تواجه مخاطر الإلغاء في الوقت الحالي.
وأخيرا، هل ستؤدي الأسعار المنخفضة إلى القضاء على إنتاج النفط الصخري؟ إذا سلمنا بصحة فرضية أن “أوبك” تستهدف التأثير في إنتاج النفط الصخري، فإن الأسعار المنخفضة للنفط ستؤدي بالتأكيد إلى وقف مؤقت للاستثمارات في مجال النفط الصخري في أمريكا، إلا أن انخفاض أسعار النفط سيدفع هذه الشركات نحو بذل مزيد من الجهود لخفض تكلفة إنتاج النفط الصخري، أو البحث عن وسائل جديدة للإنتاج.