بدأ عهد التهاون يصل إلى نهايته. فقد اعتادت البنوك المركزية لفترة طويلة على تدليل المستثمرين، إلى درجة أنه سيمضي بعض الوقت للتكيف مع انخفاض أسعار النفط، لكن جسامة الانخفاض هذه المرة في أهم سلعة في أسواق العالم بنسبة 50 في المائة لا يمكن التقليل من أهميتها.
المسألة ليست عملية فرز بين الرابحين والخاسرين من جراء النفط الرخيص. فقد تعرف المستثمرون بسرعة على الأسهم والسندات والعملات التي وقع عليها أكبر الأثر نتيجة ذلك. وكان الانهيار في أسهم منتجي النفط الصخري الأمريكي أو سندات أسهم الطاقة ذات العوائد العالية والروبل الروسي حاداً وسريعاً للغاية.
الأثر الأكبر لذلك ربما يكون أكثر اتساعاً وشمولاً، في وقت بدأ فيه المستثمرون بالعودة إلى التكيف مع فكرة أن الأسواق يمكن أن تتحرك بصورة عجيبة نحو الهبوط دون سابق إنذار، ومع مبرر متواضع نسبيا من حيث الأساسيات – وبطرق تقع كلياً خارج نطاق عمل البنوك المركزية.
هذه ليست بالحالة أو الشأن الذي اعتاد عليه كل واحد منا. فبعد القاع الذي وصلت إليه من جراء أزمة الائتمان في أوائل عام 2009 تمكنت الأسواق من الرقص على أنغام الانتعاش الاقتصادي العالمي وعزف صناع سياسة البنوك المركزية. وشهدنا كيف عملت كل خطوة تقدم في النمو الاقتصادي على تشجيع المستثمرين، في حين كانت كل خطوة إلى الخلف لا تستثير إلا همهمة حمائمية من الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك، وهو الذي أعطى أيضاً دفعة قوية للمستثمرين. ولهذه الأسباب بقي النشاط الاقتصادي عند مستويات خافتة أقرب في طبيعتها إلى الفترة التي سبقت أزمة الائتمان العالمية.
لكن المرة الوحيدة التي تعرض فيها هذا الوضع الحميد إلى الخطر كانت عندما أشار بن بيرنانكي، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي، في الحادي عشر من حزيران (يونيو) 2013 إلى أن البنك المركزي الأمريكي لن يستمر في تسهيل السياسة النقدية إلى الأبد. وأطلق ذلك التصريح ما عرف بـ “الهلع من الانسحاب التدريجي”، ما أدى إلى إيذاء أسواق السندات والأسواق الناشئة.
وعند تأمل ما حدث في الماضي يمكن اعتبار ذلك الحدث مجرد جزء آخر فقط من إجماع التهاون. كان المنطق السائد هو أن البنوك المركزية هي اللاعب المهم الوحيد، وأن الفزع يدب في الأسواق حين تتصرف هذه البنوك بشكل غير متوقع. وسارع الاحتياطي الفيدرالي إلى استعادة الهدوء حين أعلن، وبتفصيل كبير، عن كيفية التراجع والانسحاب من برنامج شراء السندات، وكيف سيبدأ بالتدريج في رفع أسعار الفائدة استجابة لتحسن الأحوال الاقتصادية. وهو الآن يتبع خريطة الطريق هذه بكل جد واجتهاد.
لكننا ونحن ندخل عام 2015 أصبح من الواضح وجود لاعبين اقتصاديين مهمين آخرين بخلاف البنوك المركزية. وكان قرار “أوبك”، والسعودية على وجه الخصوص، أنها ستحمي حصتها في أسواق النفط العالمية بدلاً من أن تزيد من عائداتها بتخفيض إنتاج النفط، أمراً مفاجئاً وغير متوقع أبداً. وكان حجم رد الأسواق على تخفيض سعر برميل نفط خام برنت من 115 دولاراً في حزيران (يونيو) إلى نحو 50 دولاراً أكثر مما كان يمكن توقعه من قياس حجم الإمدادات التي ستأتي من مرافق إنتاج النفط الصخري الأمريكي الجديد، أو الطلب من الاقتصادات البطيئة في الأسواق الناشئة، بما في ذلك الصين. وعندما بدأ سعر النفط بالسقوط، أصبح يأخذ زخماً من تلقاء نفسه.
أصبح الميل فيما يخص مسار تراجع أسعار النفط هو التقليل من أهمية هذا التحول والتركيز على آلية التصحيح الذاتي، بحيث تضعه في المكان الصحيح.
ورغم حدوث حالات تراجع ملحوظة في أسعار الأسهم بالنسبة لبعض الشركات العاملة في إنتاج الطاقة المتجددة، إلا أن مؤشر ستاندرد آند بورز للطاقة النظيفة العالمية هبط بنسبة 6.3 في المائة فقط العام الماضي. ومعظم الهبوط كان في تشرين الأول (أكتوبر)، قبل أن يتسارع التراجع في أسعار النفط. مع ذلك، عصر النفط الرخيص من شأنه أن يخمد الدافع لإيجاد مصادر بديلة للطاقة، ويتزامن هذا مع تغير السيطرة في مجلس الشيوخ، ما يقضي على فرص المزيد من الدعم الفيدرالي لموارد الطاقة المتجددة.
لكن الأهم من تراجع سعر النفط إلى نصف ما كان عليه قبل ستة أشهر، هو الحقيقة التي تقول إنه لا يوجد أي شخص يمكن أن يثق بالتوقعات حول ما ستكون عليه الأسعار بعد ستة أشهر من الآن. وبحسب هوارد ماركس، صاحب البصيرة النافذة دائما ومؤسس أوكتري لإدارة رأس المال، الذي كتب في رسالة إلى المساهمين الشهر الماضي: “بالنظر إلى الدور المتغلغل للطاقة في الحياة الاقتصادية، فإن عوامل اللبس حول النفط تُدخِل اللبس في كثير من جوانب الاستثمار”. ويبحث بعض المستثمرين عن صفقات رخيصة بين السندات ذات العوائد العالية التي لا تشتمل على أصول من شركات الطاقة، اعتقادا منهم أن بيع الصناديق المدرجة في البورصة التي لا تميز بين فئة وأخرى أثر بصورة غير عادلة في كامل سوق السندات ذات العوائد العالية. ويعتزم آخرون الاحتشاد في الأسواق الناشئة التي تعتبر اقتصاداتها رابحا صافيا من أسعار الطاقة الرخيصة، ظنا منهم أن هذه الأسواق تضررت بصورة غير عادلة إلى جانب بلدان الأسواق الناشئة التي تعتمد حظوظها على صادرات النفط. ربما تكون هذه التحركات سابقة لأوانها. والأمر الذي كان يجدر بالمستثمرين أن يتعلموه نتيجة التحركات العجيبة التي وقعت في الأشهر الستة الماضية هو أنهم قللوا من أهمية المخاطر وأصبحوا يعتمدون فوق الحد على مساندة البنوك المركزية، المريحة للجميع. العلاوات التي تدفع مقابل المخاطر كانت أدنى من الحد المطلوب عبر جميع فئات الأصول، وكذلك كان حال التقلب. هذا التهاون لا يمكن أن يستمر سنة أخرى.