بروفسور جاسم عجاقة
ما زالت أسعار النفط تهبط تحت تأثير عدة عوامل إقتصادية وجيوسياسية. هذا الإنخفاض ترك آثاراً إيجابية على الاقتصاد اللبناني من دون أدنى شك، وأعفاه من خطر الإنهيار في ظل إطار ناري يعصف بالمنطقة. فما هي الإستراتيجية الواجب اتباعها للإستفادة من ديناميكية خفض الكلفة؟
ثلاثة أعوام والإقتصاد اللبناني يتخبّط في أتون الأزمة السورية. ثلاثة أعوام إستطاع خلالها الإقتصاد الصمود، لكنّ الثمن كبير ويتمثّل في تآكله وكأنه يحتضر. كل الأرقام تُؤكد هذا التآكل، والذي يعود بالدرجة الأولى إلى تراجع عاملي الاقتصاد الأساسيين: الإستثمارات وفرص العمل.
فعلى صعيد الإستثمارات، قَلّت جاذبية لبنان إلى الإستثمارات الأجنبية في العام 2014 كما في العام 2013، أي بنسبة أقله 20% (رقم تخميني مبني على المنحنى السنوي). والسبب يعود إلى تدهور الوضع الأمني والنزوح السوري الكثيف اللذين فاقا كل التوقعات.
وإذا كان الجيش اللبناني قد استطاع السيطرة على الوضع الأمني في الداخل وعلى الحدود، إلا أنّ ضعف القرار السياسي والخسائر البشرية التي تكبّدها لم تُقنع المُستثمرين الأجانب الذين فضلوا الإستثمار في بلدان إقليمية أكثر أماناً، كقبرص التي تخرج من هذه الأزمة مثل المُستفيد الأول.
أمّا المُستثمرون اللبنانيون ففضلوا الإستثمار في أفريقيا التي تظهر كإحدى الأماكن المُفضلة للبنانيين نظراً لموقعها الجغرافي، والإمكانيات الموجودة، والنظام السائد الذي يُشبه إلى حد بعيد النظام اللبناني.
أمّا في ما يخصّ فرَص العمل، فقد فوّت لبنان على نفسه فرصة خلق آلاف فرص العمل للبنانيين الذين تنافسوا مع العمالة الأجنبية على جميع المستويات. لكنّ الكارثة كانت بفقدان 200 ألف لبناني لوظائفهم بحسب تقرير البنك الدولي الذي عَزا فقدان هؤلاء العمال لعملهم إلى العمالة السورية بالتحديد. وبذلك فقد لبنان المقومات الأساسية للماكينة الاقتصادية من ناحية أنه لا استثمارات تسمح بخلق وظائف وتُمكّن من تحديث هذه الماكينة.
وعدم خلق فرَص عمل للبنانيين مع وجود 16 ألف متخرج سنوياً من الجامعات، في حين أنّ سوق العمل لا يؤمن أكثر من 3000 فرصة عمل لهم، دَفعَ القسم الأكبر منهم إلى الهجرة. وبالتالي، زادت كمية الأموال المُرسَلة من قبل المُغتربين اللبنانيين إلى ذويهم، ما حوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعيّ؛ أي انه يعيش على تدفّق رؤوس الأموال مع ماكينة إقتصادية كَهلة لا تحتوي على عناصر التكنولوجيا في الإنتاج.
عوامل حماية الاقتصاد
كأنّ الله لا يترك شعبه للهلاك، أخذت العوامل الاقتصادية (العرض والطلب) والجيوسياسية (الأزمة الأوكرانية والأزمة السورية) تدفع بأسعار النفط إلى الإنهيار. وكما يقول المثل: «مصائب قوم عند قوم فوائد»، بدأت الكلفة على الاقتصاد اللبناني بالتراجع ومعها العجز في الموازنة، والذي من المتوقع أن يتقلّص بنسبة 500 مليون دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2015 إذا ما استمرت أسعار النفط على ما هي عليه.
وزاد الأمر لصالح الاقتصاد اللبناني مع هبوط سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأميركي، ما خفّف من كلفة استيراد البضائع من السوق الأوروبي وزاد من ربحية الشركات اللبنانية.
هذان العاملان أدّيا إلى تخفيض الكلفة الحرارية على لبنان من 5 مليار دولار في العام 2013 إلى 3,25 مليار دولار (بمعدل سنوي) وخفض كلفة الإستيراد من منطقة اليورو بما يزيد عن 30% من مجمل فاتورة الإستيراد.
أمّا القول انّ إنخفاض أسعار النفط قد يزيد البطالة في لبنان إنطلاقاً من تفاقم البطالة اللبنانية في الخليج، الذي يعيش تحت ضغوط في موازناته، وبالتالي تقليص المشاريع، فهو قول غير دقيق. والسبب يعود إلى أن المشاريع القائمة مستمرة بدليل الحفاظ على نسبة إنتاج ثابتة.
إستراتيجية تحفيز النمو
ممّا تقدّم نستنتج أن الاقتصاد اللبناني إستطاع تخفيض عجز الميزان الأولي، ما يعني أن حِمِل خدمة الدين العام قلّ وتراجعت معه مخاوف الإفلاس. وبالتالي، من المحتمل أن تعمد وكالات التصنيف الإئتماني – في حال إستمر الوضع على ما هو عليه – إلى رفع التصنيف الإئتماني للبنان.
هذا الأمر سيسمح للإقتصاد اللبناني بزيادة القروض الإستثمارية، وبالتالي تحديث الماكينة الاقتصادية وخَلق فرص عمل للّبنانيين (مع تطبيق قرار وزير العمل).
هذا الأمر مقرون بتحرير القطاعات التي تُسيطر عليها الدولة اللبنانية كقطاع الكهرباء والإتصالات، ما يفرض إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص الذي تكمن فوائده بتوفّر قدرة التمويل واستخدام الـ Know-How للقطاع الخاص على المنصّة العامة مع احترام حق ملكية الدولة على الأصول التي تمتلكها.
هذه الإستراتيجية تحتوي على استخدام «السماح المالي» الناتج عن خفض الكلفة بهدف دعم الاستثمارات في الاقتصاد. وهذا الأمر يفرض دعم القروض للشركات الخاصة الوحيدة القادرة على جَلب التكنولوجيا ودمجها في الماكينة الإنتاجية، ما يُعطي دفعاً هائلاً للإقتصاد ويسمح له بالنمو بنسب تفوّق الـ 5%.
وهذه النسَب من النمو غير كافية بالطبع لتقليص الدين العام، لذا يتوجّب مَجزها بعدد من الخطوات السياسية كانتخاب رئيس للجمهورية، إقرار قانون انتخاب جديد وانتخاب مجلس نواب جديد يعكس تمثيلاً عادلاً للشعب اللبناني مع الحفاظ على مبدأ المناصفة.
كما أنّ إستحصال الجيش اللبناني على سلاح يسمح بفرض سلطة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي، وضبط الحدود وردع المخاطر التي تتربّص بلبنان.
هذا الأمر مع الاستراتيجية الاقتصادية كافٍ لدفع النمو إلى عتبة الـ 7% (أي مواز لنسبة الفوائد على الدين العام)، وهي شبيهة بنمو العام 2007 إلى 2010 مع فارق أنّ هذا النمو سيكون نمواً مستداماً.
الإستراتيجية… والحوار الداخلي
لا شك في أنّ الحوار الداخلي بين تيار المُستقبل وحزب الله والحوار بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر سيكون له تداعيات إيجابية على هذه الإستراتيجية من منطلق أنّ الموافقة على هذه الإستراتيجية من قبل الفرقاء كافة، سيسمح بتطبيقها مهما كان لَون الحكومة ومهما كان الوزير الذي يعتلي الوزارة.
وفي النهاية لا يُمكن تجاهل الواقع الاجتماعي للمواطن اللبناني الذي يغرق تحت أعباء الظروف القاسية للنزوح السوري والتهديد الداعشي لمُدنه وقراه. وحبذا لو تكون الإستراتيجية الأولى للدولة اللبنانية تحسين الظروف الاقتصادية لكي يتمكن المواطن من تحسين وضعه الاجتماعي كما نصّت عليه إتفاقات باريس (خصوصاً باريس 3) وما تحمل في طيّاتها من مشاريع تضمن التوازن المناطقي.