57% من العائلات في طرابلس «محرومة» ، و26% منها «محرومة جداً»، تتركز في أحياء كالتبانة والسويقة الأكثر فقراً، حيث تصل نسبة الأسر المحرومة إلى 87%، فيما لا تتجاوز نسبة العائلات المحرومة في منطقة البساتين مثلاً 19%. أما «الأحياء ذات الوضع الانتقالي»، فتتعرض «لإفقار متدرج ينقلها من أحياء تسكنها الفئات الوسطى إلى أحياء شعبية، كحيّ التل – الزاهرية» مثلاً
فوجئ وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، بـ»الحقائق المرعبة» التي عرضها «تقرير دراسة الفقر الحضري» في مدينة طرابلس الذي أعدته وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – الأسكوا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي ركز على الفقر المدقع الذي ترزح تحته عاصمة الشمال، رغم أن ما كشفه التقرير لم يكن مفاجئاً أبداً بالنسبة إلى العديد من أبناء المدينة.
في حفل إطلاق التقرير (الذي يتضمن 400 صفحة موزعة على كتابين وملخص) في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس، بحضور درباس والوزيرين غازي زعيتر وأشرف ريفي ونواب وفاعليات ومهتمين طرابلسيين وشماليين، أوجز الباحث والمستشار الإقليمي لدى الأسكوا أديب نعمة، الحقائق التي أظهرها بحث ميداني وتحليلي أجري خلال شهر تشرين الأول عام 2011 على عينة عشوائية شملت 1500 عائلة من مدينتي طرابلس والميناء من مختلف الأحياء والمناطق. بحسب التقرير، تبلغ نسبة العائلات «المحرومة» 57%، و«والمحرومة جداً» 26%، و«المحرومة نسبياً» 28%، فيما تبلغ نسبة «غير المحرومين» 15% فقط.
قُسمت طرابلس والميناء إلى 7 مناطق (أُسقطت منها منطقة أبي سمراء لأن أهلها لم يتجاوبوا مع فريق البحث الميداني). أظهر البحث فروقات شاسعة في الفقر بين منطقة وأخرى بلغ أحياناً أكثر من 4 أضعاف، فبينت الأرقام أن منطقتي التبانة والسويقة هما الأكثر فقراً، وأن نسبة الأسر التي تعاني الحرمان فيهما تصل إلى 87%، تليهما المدينة القديمة بنسبة 75%، والقبة وجبل محسن بنسبة 69%، والميناء بنسبة 63%، والتل والزاهرية بنسبة 36%، وبساتين الميناء بنسبة 26%. أما منطقة بساتين طرابلس، فتبين أن فيها 19% فقط من الأسر المحرومة، وهي منطقة تضم أحياء وشوارع المئتين وعزمي والميناء والضم والفرز والمعرض.
توقف التقرير عند ما سمّاه «تطور الفقر» في طرابلس، مستنداً إلى دراسة ميدانية أجراها المهندس ديران هرمنديان عام 2001، تُبين مقارنتها بالدراسة الأخيرة أن «نطاق الفقر يتوسع جغرافياً في المدينة، وأن الأحياء الفقيرة وشبه الفقيرة والتجمّعات العشوائية بقيت على حالها بعد عشر سنوات، وهو ما يشير إلى أن المسار العام للوضع الاجتماعي ومستوى المعيشة في طرابلس هو مسار تدهور وتراجع، ما يجعل ظاهرة الحرمان عام 2011 أوسع انتشاراً مما كانت عليه عام 2001، أي إن السياسات والتدخلات السابقة، إن وجدت، كانت غير فعالة».
«الانطباع السابق في أن البولفار يفصل بين المنطقتين الفقيرة والحديثة في طرابلس لم يعد قائماً، لأن مظاهر الفقر والحرمان تزحف وتتوسع، وأن المسار العام في طرابلس انحداري، في حين أن مسار بقية المناطق المحيطة بطرابلس تصاعدي»، أوضح نعمة، ضارباً أمثلة عن مظاهر الفقر والحرمان في المناطق المهمشة في طرابلس، منها أن «76% من البالغين لا يملكون شهادة ثانوية عامة، و78% ليس عندهم حساب مصرفي،
و80% من العائلات لم تذهب جماعياً، ولو لمرة واحدة، لتناول الغداء أو العشاء في مطعم ما». وخلص التقرير إلى استنتاجات أولها أن «طرابلس مدينة فقيرة مع جيوب رفاه، بحيث لا يصح وصف الوضع بأن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة، وما يمكن اعتباره طبقة وسطى وما فوق لا تزيد على 20% من إجمالي السكان»، وأن «أبعاد الفقر المختلفة متلازمة ومترابطة بقوة، وبناءً عليه لا يمكن التصدي لبعض أبعاد الفقر وإغفال أبعاد أخرى… فتقليص التفاوت على مستوى المدينة هدف رئيسي».
رأى التقرير «ضرورة تنفيذ مشاريع كبرى للتنمية الاقتصادية، لأنه لا يمكن التصدي لحجم المشكلة في طرابلس من خلال المشاريع الصغيرة وحدها»، وأن هناك «حاجة إلى قيادة مركزية محلية قوية، لأن مسار التدهور في المدينة بدأ من تهميشها سياسياً وقيادياً على امتداد عقود». «التنافس السياسي المحلي ضارّ ويشجع على الفوضى (قال نعمة إنه أعلى من سواه في بقية المناطق اللبنانية)، والقيادات المحلية لم تنجح خلال السنوات الماضية في تشكيل إطار واحد للتنسيق وللتفاوض مع المانحين والجهات الخاجية لتخفيف الفوضى والازدواجية»، خلص التقرير إلى ضرورة «تغيير صورة طرابلس، والطريق لذلك يبدأ بالاعتراف بمكامن الخلل الحقيقية في صورة المدينة كما تظهر في عيون سكانها أنفسهم». لكن في مقابل هذه الصورة القاتمة، ثمة طاقات كامنة في طرابلس تجعلها قادرة على إطلاق دينامية تنموية وبلورة «قيادة تنموية» محلية قوية «تؤمن بالمشاركة»، بحسب التقرير. وكما أشار أمين المال في غرفة التجارة والصناعة والزراعة توفيق دبوسي، فـ»الوضع في طرابلس سيّئ، ولكنها في الوقت نفسه تمتلك مرافق لا تمتلكها منطقة لبنانية أخرى، قادرة على إخراجها من مأزقها».
«كانت طرابلس قبل 20 سنة وأكثر أفضل لجهة الوضع المعيشي والاجتماعي والتعايش، وإذا بها تنحدر» قال الوزير درباس، محمّلاً بلدية طرابلس جانباً من المسؤولية لأنها «أصبحت ساحة لتصفية الحسابات السياسية»، وداعياً إلى «الخروج من الاستكانة الغريبة للحرمان المزمن، وللتخطيط والعمل» لتغيير صورة طرابلس في السنوات والعقود المقبلة. من جهته، قال رئيس بلدية طرابلس نادر غزال، إن «الفقر بات وجه المدينة الذي يطاردنا أينما ذهبنا، وجميعنا مقصرون، بمن فيهم أنا شخصياً (أطلقت تعليقات ساخرة على غزال أثناء إلقائه كلمته)، وإن التحدي أمامنا يكمن في كيفية مواجهتنا هذا الفقر، لأن المدينة باتت قرية كبيرة والأرياف تتمدد إليها». بدوره، أوضح مدير مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان لوكا رندا، أن الفقر «تفاقم في طرابلس بعد موجة النزوح السوري، ويخشى معه أن تتزايد الصراعات إن لم نبادر إلى حلها، لأن السكان لم يعودوا يتحملون إغداق الوعود»!
استشهد نعمة ببيت شعري للمتنبي في وصف طرابلس عندما زارها قبل نحو ألف سنة (سنة 936 تحديداً)، حيث قال:
«أكارمٌ حسد الأرض السماء بهم وقصُرتْ كل مصر عن طرابلس»،
ليتساءل في الختام: «لو كُتب للمتنبي أن يزور طرابلس اليوم، فماذا كان سيقول بها؟».