حيدر الحسيني
كما في الجغرافيا كذلك في الاقتصاد، تدفع ليبيا ثمن صراع أبنائها على السلطة والثروة. البلد الذي تشكل تاريخياً من 3 أقاليم متجاورة متفرقة، هي طرابلس غرباً وبرقة شرقاً وفزان جنوباً، ذابت كلها في كيان واحد قاهر للاستعمار، يبدو الآن متجهاً في خطوات عكسية متسارعة باتجاه التقسيم على الأقل إلى بلدين متناحرين.
الشعب الذي اغتنم ما سُمّيَ «الربيعَ العربي» لإطاحة معمّر القذافي أواخر عام 2011، فشلت نخبته السياسية والعسكرية حتى الآن في تشكيل نظام بديل ينتقل بليبيا إلى مرحلة إعادة الإعمار وترسيخ الاستقرار ودفع عجلة التنمية والعودة بالاقتصاد المُعتمد أساساً على عائدات النفط إلى دائرة تفعيل الإنتاج وتحقيق معدلات نمو تتلاءم مع ثروته الهائلة المتمثلة أساساً بعاشر أكبر احتياطي مُثبَت في العالم.
بغض النظر عن القراءات التي تربط ما يجري في رابع أكبر البلدان الأفريقية وفي بعض الدول الاُخرى، يمكن القول إن عُمق الصراع داخل هذه الدول، ومنها ليبيا، بات ينبئ باستحالة قيام تكتلات سياسية واقتصادية في المنطقة قبل عشرات السنين.
الموازنة تدفع الثمن
نفط ليبيا المُفضَّل بمواصفاته القياسية على كثير من نفوط الدول الاُخرى، أضحى اليوم غير قادر على درّ الأموال المطلوبة لكفاية احتياجات الخزينة العامة ومشاريع التنمية، خاصةً مع انقسام أهل السياسة إلى حكومتين، لكُلّ منها منظّريها في الصالونات وعسكرها على الأرض.
فهو، من ناحية، يدفع ثمن انخفاض سعر البرميل عالمياً إلى 50 دولاراً تقريباً، بعدما خسر نحو 56 في المئة من قيمته خلال 7 أشهر، وبالتالي لم تستطع الدولة أن تستفيد على النحو الأمثل من هذه الثروة. ومن ناحية اُخرى، يدفع النفط ثمن الأعمال العسكرية والأمنية التي تحول دون استخراجه بأقصى إمكاناته ودون تصدير هذه السلعة الاستراتيجية إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة وتعزيز احتياطات المصرف المركزي واعتمادات الوزارات المُشتتة بين حكومتين.
ومع تضرر غالبية حقول النفط والموانئ البحرية من الأعمال القتالية، تدهورت صادرات الخام الليبي دون 300 ألف برميل يومياً، أي أقل بـ20 في المئة عن 1,6 مليون برميل، المستوى الذي بلغته قبل سقوط القذافي.
ولأن بيع النفط هو المصدر الوحيد لتمويل موازنة الدولة وفاتورة المستوردات البالغة 30 مليار دولار سنوياً، فقد أدت الاضطرابات إلى هبوط قيمة الدينار 30 في المئة أمام الدولار في السوق السوداء، بينما أوقف المصرف المركزي ضخ العملة الأميركية في أسواق النقد منذ أشهر. وتذهب بعض التوقعات إلى أنه قد يُضطّر لخفض قيمة العملة الوطنية 50 في المئة للتعويض من نقص إيرادات النفط ودفع رواتب موظفي القطاع العام، بعدما استنزف الصراع قسطاً مهماً «مجهولاً» من احتياطيات النقد الأجنبي، التي بلغت في حزيران 2013 ما قيمته 109 مليارات دولار.
وينتيجة الهزات التي تعيشها ليبيا، ناهز عجز الموازنة العامة 15 مليار دولار آخر تشرين الثاني الماضي، قبل أن يهوي إنتاج البترول إلى النصف تقريباً، علماً أن تكلفة الرواتب ودعم القمح والبنزين تُقدّر وحدها بـ28 مليار دولار.
غموض توقعات 2015
من الواضح أن الباني على المعطيات الحالية في الوضع الليبي لا يمكنه أن يجد ما يدعوه إلى التفاؤل على الأقل في المدى المنظور، لا بل إن الأقرب إلى الواقع هو العواقب الاقتصادية والمالية الوخيمة التي تنتظر هذا البلد جرّاء الصراع المحتدم وحالة الشرذمة التي يعانيها النسيج الاجتماعي والتفكك الضارب في خارطة المشهد السياسي.
صندوق النقد الدولي المراقب من كثب للتطورات في ليبيا، يحذر من أن عجز المالية العامة وضخامة الحساب الجاري يمكن أن يستنزفا احتياطات العملة الصعبة، في حين تبقى الأولوية القصوى والفورية لتعزيز استقلالية المصرف المركزي التائه بين سلطتين سياسيتين، إلى جانب إنشاء آلية شفافة خاضعة للمساءلة في إدارة موارد البلاد.
كما أن الحد من الضغوط المالية الكبيرة المتصاعدة يتطلب كبحاً لجماح الإنفاق الجاري، ومن الضروري وضع الإصلاحات الهيكلية وبناء المؤسسات على سكة التنفيذ، باعتبار ذلك ضرورياً لتعزيز الاستثمار واستقطاب الرساميل وتأمين فرص العمل وتمكين الاقتصاد من الاتجاه نحو النمو والازدهار، شرط تأمين الاستقرار السياسي والأمني، وهو شرط يبدو الآن وفي الأمد القريب صعباً جداً إلى حد الاستحالة.
وتشير تقديرات صندوق النقد إلى تجاوز العجز 50 في المئة من من الناتج المحلي المجمل العام الماضي، مع عجز في الحساب الجاري تجاوز 27 في المئة من الناتج المجمل. ومن شأن هذين البندين أن يشكلا ضغطاً على الاحتياطات الرسمية، التي قد تكون انخفضت 22 في المئة تقريباً بما يغطي 34 شهراً من الواردات بحلول نهاية العام المنصرم.
وتماشياً مع تباطؤ الإنفاق الحكومي والنشاط الاقتصادي العام، بقيت الكتلة النقدية بمعناها الواسع ونمو التسليفات عند 4 في المئة و1 في المئة على التوالي من الناتج المحلي المجمل العام الفائت.
قد تكون تقديرات صندوق النقد مطابقة إلى حد كبير بالنسبة للعام الفائت، لكن توقعاته لسنة 2015 بخصوص المالية العامة والعجز المرتقب ومعدل التضخم قد لا تبدو واقعيةً وهي بحاجة إلى تعديل في ضوء التطورات الجديدة، باعتبار أن تقرير الصندوق صادر في بداية تشرين الأول 2014، ويبني توقعاته على أساس صادرات نفطية تبلغ 840 ألف برميل يومياً، بينما هوى الإنتاج اليوم فعلياً إلى أقل من 300 ألف برميل، توازياً مع تدهور سعر البرميل عالمياً باتجاه 50 دولاراً الآن، نزولاً من 92 دولاراً حين صدور التقرير قبل نحو 3 أشهر.
غير أن الأخطر على الإطلاق بالنسبة لهذا البلد، سواء وفقاً لتوقعات صندوق النقد أو قراءة المتابعين لمجريات الأحداث، يبقى كامناً في احتمال أن يُحوّل التدهور العميق للأوضاع السياسية والأمنية ليبيا إلى دولة فاشلة، أو أن يؤدّي إلى تقسيمها في اتجاه معاكس لسيرورة تاريخية أفضت إلى وحدة وطنية حققتها بعد صراعات تاريخية مريرة، مع ما قد ينتجه ذلك من انعكاسات اقتصادية وخيمة وحادة سواء بالنسبة لليبيا نفسها أو للبلدان المجاورة لها.