Site icon IMLebanon

انهيار الروبل يترك الدب الروسي في منطقة شديدة الحرارة

RussiaRubleDown
كاترين هيلي
“مرحباً بكم في روسيا”، هذا ما تقوله لافتة كبيرة نصبت لتكون علامة على الحدود الفاصلة بين بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وروسيا، على الطريق الرئيسي الواصل بين مينسك وموسكو. لكن في الوقت الذي يمر فيه رومان، وهو سائق شاحنة جاء من بلدة أورشا البيلاروسية، يخرج زفرة مكبوتة دلالة على السخرية أثناء مروره من تحت هذه اللافتة. فقد كانت شاحنته التي تنقل النقانق إلى مدينة سمولينسك الروسية المجاورة محتجزة في الجمارك البيلاروسية لمدة ساعة على الأقل.

عاد موظفو الجمارك البيلاروسيون إلى مركز عملهم في كراسنايا غوركا، وهو أكبر معبر مؤد إلى روسيا، بعد أكثر من ثلاث سنوات من إزالة روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان القيود التي كانت تفرض على الحدود. هنا يمكن أن ترى مفتشي الجمارك البيلاروسيين وهم يتفحصون بدقة كل شاحنة تقريباً في وقت كانت فيه الرياح الثلجية تجلد ظهورهم من كل جانب. يقول رومان: “أوشكت هذه الحدود على الاختفاء، لكنها أصبحت الآن صعبة جداً. لو كان الأمر بيدي لكنتُ أفضل ألا آتي إلى هنا بعد الآن”.

لكن لم يكن من المفروض أن يكون الوضع كذلك. في الأول من كانون الثاني (يناير)، وهو التاريخ الذي سبق إيقاف رومان في مركز الجمارك بأربعة أيام، كان يفترض أن يدخل اتفاق الاتحاد الجمركي الأوراسي حيز التنفيذ، وهو مشروع كان من المقرر أن يوسع من الاتحاد الجمركي للأعضاء الثلاثة ويجعل منهم نادياً إقليمياً لديه سوق مشتركة، ويؤدي في النهاية حتى إلى عملة موحدة. وفي هذه السنة ستنضم كل من أرمينيا وقيرغيزستان إلى هذا الاتحاد، لكن روسيا تأمل في النهاية في انضمام أغلب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
بالنسبة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يعتبر مثل هذا الاتحاد شيئاً يدور حول أمور أكثر أهمية كثيرا من الاقتصاد. فعلى الرغم من تكرار بوتين رفضه فكرة أنه يريد إحياء الاتحاد السوفياتي، إلا أنه يقول إن الجمهوريات الأعضاء السابقة في الاتحاد السوفياتي تشكل جزءا من بنية تحتية واختصاصات إقليمية وثقافية مشتركة، وهي أمور يجدر بها أن تستخدمها موردا للتطور المشترك فيما بينها.

كتب بوتين في عام 2011: “نقترح تشكيل رابطة متعددة القوميات، قوية قادرة على أن تكون واحدة من الأعمدة الرئيسية في العالم الحديث وتعمل جسرا فاعلا يصل بين أوروبا ومنطقة الباسيفيكي الآسيوي الديناميكية”.

حلم الإمبراطورية

لكن كثيرا من المراقبين الروس يرون في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وسيلة رئيسية لجعل روسيا قوية مرة أخرى – وهي مهمة تقع في صلب أجندة بوتين. يقول سيرجي ماركوف، المحلل الموالي للكرملين: “إن ذلك يضع روسيا مرة أخرى في مركز العالم الذي تنتمي إليه”. لكن ديبلوماسياً من أوروبا الشرقية يعمل في موسكو كان أكثر صراحة عندما قال: “إذا نظرت إلى التوسع المقصود لهذه الكتلة، فسترى أن الغرض من ذلك واضح: إنه يُعيد الإمبراطورية ثانية إلى بوتين”.

وتظهر التطورات التي كشفت عنها أحداث أوكرانيا منذ أواخر عام 2013 كيف كان بوتين يلجأ للاعتراض بعنف على أي شيء يعمل على إخراج هذه الخطط عن مسارها. ومن الأمثلة على ذلك الأزمة التي اشتعلت في دولة مجاورة (أوكرانيا) عندما تخلى فيكتور يانوكوفيتش، الذي كان في حينه رئيساً لتلك الدولة، عن اتفاق مقرر مع الاتحاد الأوروبي. اتخذ يانوكوفيتش ذلك القرار تحت ضغط شديد من موسكو، في وقت أصبحت فيه كتلة بوتين التجارية أقل قابلية للتطبيق بكثير دون أوكرانيا. والآن وبعد أن ذهب يانوكوفيتش، وبعد أن وقعت كييف اتفاقا تجاريا مع الاتحاد الأوروبي، فإن ما بقي من الإمبراطورية التي كان سيشكلها بوتين يتفكك الآن بسرعة.

وفي الشهر الماضي لم تقم بيلاروسيا، وهي واحدة من الشركاء الأساسيين في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فقط بإعادة القيود على حدودها مع روسيا، ولكنها سعت أيضاً تغيير اتفاقية التجارة الثنائية، بحيث يتم التبادل التجاري بالدولار بدلاً من الروبل. وفي الأسبوع الماضي قال أليكساندر لوكاشينكو، الرجل القوي الذي يحكم بيلاروس، وهو يشير إلى حقيقة أن أكثر من نصف صادرات بلاده تذهب إلى روسيا وأكثر من 90 في المائة منها يتم تسويتها بالروبل: “لا نستطيع الاعتماد على سوق ونصف سوق. صحيح أن روسيا أخ وصديق لنا. لكنك ترى كيف يتصرفون أحياناً. ولذلك علينا أن نتأكد من أننا نقوم بالتنويع، مهما كان الثمن”. ويقول مختصون روس إن مثل القلق يعرض التكامل الإقليمي للخطر. ويقول سيرجي بيسبالوف، الزميل الباحث في الأكاديمية الرئاسية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة: “الوضع أصبح خطيرا من وجهة نظر كل من بيلاروسيا وكازاخستان”. ويضيف: “حتى وقت قريب كان هذان البلدان يعتقدان أن نشوء فضاء اقتصادي مشترك مكون من اتحاد اقتصادي أوراسي سيكون مفيداً لهما، لكن انخفاض قيمة الروبل غير من الموقف بصورة عجيبة”.

تحذيرات بيلاروسية

وحتى أن لوكاشينكو حذر من أن مينسك (عاصمة بيلاروسيا) جاهزة للدفاع عن نفسها عسكرياً، الأمر الذي يعني أن بلاده لديها شكوك أمنية عميقة تجاه جارتها الكبيرة. وقال في الشهر الماضي: “إن سلوك شقيقنا الشرقي الكبير لا يمكن إلا أن يسبب لنا القلق الشديد، ولن يُسمح لأي كان بالتحدث إلى بلدنا من مركز قوة. نحن لسنا دولة كبيرة، ولا نمتك أسلحة نووية، لكن لدى جيشنا من الفاعلية ما يكفي للرد على أي تهديد يوجه لبلدنا”. وكان الفتيل الذي أشعل كل هذا هو الخلطة السامة نفسها التي تعمل على إسقاط الاقتصاد الروسي، إنه الموقف الروسي تجاه الغرب وانهيار العملة الروسية بسبب انهيار أسعار النفط. وجاء تحرك بيلاروسيا لإعادة فرض الجمارك بعد أن حاولت موسكو إيقاف مينسك عن تقويض حظر تفرضه روسيا على الواردات الغذائية من الغرب، وهو الرد الروسي على العقوبات التي فرضها الغرب بسبب أوكرانيا.

وكان التحرك الخاص بالاتفاق التجاري رد فعل على انهيار الروبل الروسي، وهو الذي يهدد بجرجرة جيران روسيا معاً إلى حلبة أزمة اقتصادية. وقد لجأ البنك المركزي البيلاروسي يوم الإثنين الماضي إلى تخفيض السعر الرسمي للروبل البيلاروسي في مقابل الدولار بنسبة 7 في المائة، بسبب استمرار تحرك الروبل الروسي حول 61 روبلاً مقابل الدولار، بعد أن كان 33 روبلاً للدولار الواحد قبل عام.

كذلك تسبب انخفاض العملة الروسية في نزف مورد حيوي في دخل عدة اقتصادات مجاورة لروسيا، وهي البلدان التي تعتمد على تحويلات العمالة المهاجرة إلى روسيا. وحسب أرقام نشرتها خدمات الإحصاءات الاتحادية الروسية، انخفض صافي الهجرة إلى البلاد بنسبة عالية وصلت إلى 10 في المائة في الفترة بين كانون الثاني (يناير) وتشرين الأول (أكتوبر) 2014، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ومن المتوقع أن يتزايد هذا الاتجاه بعد أن انحدرت قيمة الروبل إلى مستويات أدنى في تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر). وقال جافهار جواريفا، مدير مركز الهجرة والقانون، وهو مجموعة غير حكومية تقدم المساعدة القانونية للمهاجرين: “أصبح الكثير من العاملين يفكرون بعناية شديدة فيما إذا كان لا يزال من المجدي البقاء في البلاد”. وأضاف: “أصبحت قيمة أجورهم أقل مما كانت عليه من قبل، وفي الوقت نفسه لا تزال تكاليف المعيشة مستمرة في الارتفاع”.

والأكثر تضررا من هذه المشكلة ستكون دول مثل طاجيكستان التي تستمد 52 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي من تحويلات المهاجرين، وفقا للبنك الدولي. وتعهد لوكاشينكو بالدفاع عن بلاده عسكريا يظهر أن عدوان موسكو على أوكرانيا تسبب في عدم ارتياح وعدم ثقة وخوف مطلق بين جيران روسيا الآخرين. وقد رفض كل من لوكاشينكو ونور سلطان نزارباييف، رئيس كازاخستان، الحليف الأساسي الآخر لروسيا في الكتلة ما بعد السوفياتية، دعم بوتين في مواجهته مع كييف وأكدا أن أوكرانيا ليست عدوهما. ويجادل بعضهم في المنطقة أنه في حين تم تكريم بوتين بوصفه زعيما استعاد السلطة والاحترام والمجد لروسيا، إلا أن سياساته العام الماضي قادت بلاده في الواقع إلى عزلة فعلية. وبالنسبة للغرب والدول المجاورة لروسيا، لا يكاد يكون ذلك سببا للانتصار. ويخشى بعضهم من أنه في الوقت الذي يشعر فيه بوتين بأنه محصور في الزاوية من المحتمل لروسيا أن تصبح أكثر خطورة.

ورقة الصين

قال دبلوماسي أوروبي شرقي: “الاتحاد الأوراسي يعتبر منصة لإعادة بناء روسيا قوة عالمية – أصبح ضربا من الخيال الآن”. وأضاف: “لقد قمنا بالتحديق في أزمة أوكرانيا على أنها لعبة جيوسياسية كان يفوز فيها بوتين. في الواقع، لقد راهن بكل ما لديه من بطاقات جيوسياسية”. وتابع: “قوض بوتين القوة الناعمة قليلا التي كانت موسكو قد تركتها بعد الاتحاد السوفياتي، والآن تستكمل الأزمة الاقتصادية الإجهاز على ما تبقى”.

لكن السياسيون والأيديولوجيون في روسيا يرفضون هذا التحليل بمنتهى القوة. وقال يوري تافروفسكي، وهو أستاذ فخري في جامعة الصداقة للشعب الروسي: “الصين تساعد روسيا على الوقوف بحزم ضد العقوبات الغربية”. وأضاف: “وفي الوقت نفسه، تقوم دول بريكس ببناء بديل للمؤسسات الدولية التي لطالما هيمن عليها الغرب”.

لكن انخراط بكين مع موسكو يقل كثيرا عن التحالف الذي تحتاج إليه روسيا. الحكومة الصينية، الحذرة من تأجيج المشاعر الانفصالية في الداخل، التي توجد إمكانات صراع جديدة لا لزوم له مع الولايات المتحدة، امتنعت عن تقديم أي دعم لضم موسكو لشبه جزيرة القرم. قدمت بكين دعما لبوتين عن طريق توقيع صفقات ضخمة في العام الماضي، مثل عقد توريد الغاز لعدة سنوات بقيمة 400 مليار دولار، في حين مدت المصارف الحكومية الصينية خطوط ائتمان لعدة مصارف روسية ولغيرها من الشركات. لكن شروط صفقة الغاز لا تزال غير واضحة، والقروض الصينية لم تصل إلى المستوى التي يمكن عندها استبدال المصارف الغربية باعتبارها مصدر تمويل للشركات الروسية.

ويمكن لبكين أيضا أن تتبلور منافسا في المدار التقليدي في آسيا الوسطى، التابع لموسكو. وعلى الرغم من أن المحللين الروس يستشهدون باقتراح الرئيس الصيني، تشي جينبينج، إنشاء “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” مثالا على الموقع الأساسي لروسيا بين آسيا وأوروبا، إلا أن مفهوم بكين على الأقل يضع كثيرا من التركيز على تطوير العلاقات مع أوروبا على طول مسار قد يتجاوز روسيا، مثلا من خلال تطوير خطوط السكك الحديدية عبر كازاخستان، بدلا من استثمارات إضافية في سيبيريا.

فقدان روسيا السريع للمكانة الجيوسياسية قد يستغرق بعض الوقت حتى يصبح أكثر وضوحا. ومن المحتمل للاتحاد الأوراسي، على الرغم من المشكلات الاقتصادية، أن يتلقى دفعة جديدة من الشرعية، من خلال محادثات مقررة مع الاتحاد الأوروبي، اقترحتها ألمانيا وسيلة لإعادة إشراك روسيا في حوار حول مسائل خارج أوكرانيا. لكن في المحافل الخاصة، يعبر دبلوماسيون أوروبيون عن شكوكهم في أن المحادثات يمكن أن تفعل أي شيء سوى حفظ بعض ماء الوجه لبوتين.

الجبهة العسكرية

على الجبهة العسكرية، من المتوقع لروسيا أن تستمر في إلقاء ثقلها هنا وهناك، وأن تعمل القوات المسلحة الروسية على تصعيد وتيرة ونطاق أنشطتها خارج حدود البلاد. ووفقا لحلف شمال الأطلسي، فإن عدد الحوادث حيث تدافعت الطائرات المقاتلة لأعضاء التحالف العسكري ردا على الطائرات الروسية التي تكاد تنتهك مجالها الجوي ارتفع خلال العام الماضي. لكن مختصين عسكريين يقولون إن هذه المواقف لا تعني امتلاك القوة بأي حال من الأحوال. ولأن الجيش الروسي يخضع لبرنامج تحديث لعدة سنوات، فإنه يحاول أن يضع أفرادا غير مدربين بشكل كاف، وبشكل يرثى له، في وضع يمكنهم من تشغيل المعدات الجديدة. وقال مسؤول عسكري غربي: “لديهم كمية لا تصدق للحاق بالركب، مقارنة بقوات حلف شمال الأطلسي”. ووفقا لمختصي الدفاع في موسكو، فقد اعتاد طيارو المقاتلات الروسية حتى وقت قريب على الطيران مدة لا تزيد على 20 ساعة سنويا. وبالنسبة لطياري حلف شمال الأطلسي، فإن عدم إكمال 30 ساعة طيران شهريا يتطلب أن يعيد الطيار الفحص.

والآن، مع تضييق انخفاض أسعار النفط الخام على الميزانية الروسية، التي تعتمد على استخراج النفط والغاز في أكثر من نصف إيراداتها، حتى الاستمرار في الترقيات العسكرية يجري التشكيك فيه. والقيادة تدرك جيدا نقاط الضعف هذه. وبحسب ديمتري جورنبيرج، وهو مختص في شؤون الجيش الروسي في جامعة هارفارد، بدلا من الخضوع إلى واقع جيوسياسي جديد، يستخدم بوتين تكتيكات جديدة للتعامل معه.

وقال: “علينا أن نتوقع الكثير مما يسمى الحرب الهجينة أو الحرب الجديدة”. وبالنسبة لبعضهم، هذه المخاطر لا مجال أمامها إلا أن تتعمق في الوقت الذي تظهر فيه على المشروع الأوراسي التابع لبوتين علامات التعثر.