وائل مهدي
الجنرال الألماني كارل فون كلاوسفيتز المتوفى في عام 1831 هو أحد أهم من كتبوا نظريات عن الحرب. وفي كتابه الشهير «عن الحرب» يعرف كلاوسفيتز الحرب قائلا: «هي ممارسة العنف لإجبار خصمنا على تلبية رغباتنا». واستنادا على هذا التعريف هل ما نشهده في بداية هذا العام من تخفيضات على نفط أوبك هو بداية لحرب أسعار أم مجرد تنافس طبيعي للحفاظ على الحصص السوقية؟ ومضت 3 أشهر الآن منذ أن توقفت السوق عن التصديق بأن هناك حرباً للأسعار، إلا أن هذا لم يمنع وكالة «رويترز» بالأمس من نشر تقرير حاولت فيه أن تحيي فكرة أن دول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ستخوض حرب أسعار فيما بينها في السوق الآسيوية من أجل الحفاظ على الحصص بعد هبوط النفط تحت سعر 50 دولار.
وبنت «رويترز» سيناريو حرب الأسعار على أساس التخفيضات التي قدمتها والعراق والكويت والإمارات هذا العام إلى الزبائن في آسيا والتي كانت أعلى من التخفيضات التي قدمتها السعودية إلى الزبائن هناك. واستند التقرير بشكل كبير على التخفيضات التي تقدمها شركة أبوظبي الوطنية للبترول (أدنوك).
ويقول تقرير «رويترز» إنه للأعوام العشرة الماضية كانت «أدنوك» تبيع خام مربان بزيادة قدرها 15 سنتاً فوق سعر الخام السعودي العربي الخفيف «إكسترا»، ولكن هذا الأمر تغير الآن منذ أبريل (نيسان) في عام 2014 وأصبح «مربان» يباع أقل من العربي الخفيف إكسترا، ووصل التخفيض إلى أقصى حد له عند 2.28 دولار.
وبالفعل فإن شهر يناير (كانون الثاني) الحالي شهر منافسة شديدة جدا بين دول أوبك على آسيا، إذ انضمت إيران إلى العراق والكويت والسعودية، لتقدم تخفيضا على نفطها الخفيف هو الأعلى منذ 14 سنة للمشترين في آسيا لتحميل شهر يناير. وأعلنت العراق والسعودية والكويت في الشهر الماضي قائمتها بتخفيضات ضخمة جدا، حيث قدمت العراق تخفيضا هو الأعلى منذ 11 عاما على البصرة الخفيف ولحقتها الكويت، بعد أن قدمت خصومات كبيرة على نفطها لشهر يناير القادم هي الأعلى منذ 6 سنوات. أما «أرامكو» فقد قدمت أعلى تخفيض على العربي الخفيف لم تشهده السوق منذ عام 2000.
ومع كل هذه التخفيضات المقدمة فإن فكرة الحرب لم تقنع الكثير من المحللين ومن بينهم المحلل الكويتي ونائب الرئيس السابق في شركة البترول الكويتية الدولية عصام المرزوق والذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «كلمة حرب أسعار كلمة كبيرة جدا لا مكان لها في ما يحدث الآن من تخفيضات. عندما تكون في حرب فإنك لن تعطي تخفيضا قدره دولار ونصف حتى تحصل على حصة غيرك!»
ويضيف المرزوق: «ما يحدث الآن منافسة طبيعية بين المنتجين لجعل براميلهم أكثر جاذبية للزبائن. عندما تعطي السعودية تخفيضا على نفطها لأوروبا أو إلى آسيا أو إلى أميركا فالهدف من وراءه هو جعل البرميل تنافسيا في السوق هناك لأن الكل يريد أن يبيع حالياً هناك. ولكن هذا لا يعني بأن السعودية تحاول البيع بأقل من سعر أحد. هذا ليس الهدف».
ويشرح المرزوق السبب وراء هذه التخفيضات التي شهدتها الأسعار هذا العام قائلا: «هناك مسألة أكبر بكثير من الحفاظ على الحصص السوقية بالنسبة لـ(أوبك)، وهي أن توقعات الطلب ضعيفة جدا هذا العام وهذا ما يجعل المشترين قلقين من شراء المزيد من النفط ولهذا السبب لا بد أن يعطي المنتجين تخفيضات لتشجيع الطلب وإبعاد المخاوف حيال الخسائر من جراء التباطؤ الاقتصادي المتوقع هذا العام».
وكانت العراق قد زادت من التخفيضات التي قدمتها إلى أوروبا لتحميل شهر فبراير (شباط) وحافظت على أسعار آسيا عند مستوى تنافسي مع النفط السعودي رغم أن البلدين رفعا أسعار النفط على العملاء هناك. وأعلنت قالت شركة تسويق النفط العراقية (سومو) أول من أمس في قائمة الأسعار لفبراير والتي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها أنها زادت التخفيض على خام البصرة الخفيف إلى أوروبا بواقع 1.6 دولار لكل برميل، مقارنة بأسعار يناير الحالية، فيما سترفع أسعار نفط كركوك بنحو 1.9 دولار للبرميل خلال نفس الفترة. وبناء على هذه التخفيضات ستبيع العراق خام البصرة في عقود فبراير لأوروبا بسعر خام برنت الفوري ناقصاً منه 5.95 دولار للبرميل. وفي الشهر القادم ستبيع «أرامكو» العربي الخفيف للمشترين في أوروبا بسعر برنت منقوصاً منه 4.65 دولار للبرميل وهو أدنى مستوى له منذ عام 2009. وأظهرت قائمة أسعار سومو أنها زادت أسعار آسيا بواقع 30 سنتا أي (0.3 دولار) للبرميل في فبراير مقارنة بشهر يناير، وبذلك سيحصل عملاء آسيا على نفط البصرة الخفيف بسعر يعادل متوسط أسعار خامي دبي وعمان ناقصا 3.70 دولار للبرميل. ورفعت السعودية سعر البيع الرسمي لشحنات فبراير من كل الخامات التي تبيعها إلى آسيا بين 55 سنتا للعربي الخفيف السوبر وهو أجود أنوع النفط الذي تبيعه أرامكو و70 سنتا للعربي الثقيل وهو أقل الأنواع السعودية جودة.
ولكن ما الذي يجعل وسائل الإعلام تتناقل مسألة حرب الأسعار حاليا، وكيف نشأت فكرة حرب الأسعار في الأصل في ذهن الجميع؟
تعود هذه الفكرة في الأصل إلى تلك الحرب التي خاضتها «أوبك» في منتصف الثمانينات الميلادية عندما بدأت السعودية في تغيير سياساتها التسعيرية وتنفصل عن باقي «أوبك» وتبيع النفط على أساس معادلة اسمها «العائد الصافي» أو النت باك (Netback). وتحت هذا النظام قررت السعودية ابتداء من منتصف عام 1985 في أن تبيع النفط للمصافي على أساس سعر المنتجات مخصوم منه الشحن والتكاليف الأخرى وهو ما يجعل الزبائن يكسبون أكثر، نظرا لأنهم يستطيعون بيع المنتجات بأي سعر ومع هذا يحققون أرباح.
وما الذي جعل السعودية تلجأ إلى هذه السياسة وتتخلى عن سياسة «السعر الثابت» والذي كانت «أوبك» تحافظ عليه وتدافع عنه. لقد لجأت السعودية لهذه السياسة من أجل استعادة حصتها السوقية التي فقدتها بسبب لعبها لدور المنتج المرجح (swing producer) والذي كانت تلعبه بهدف الحفاظ على السعر من خلال ضبط الإنتاج.
وكان هذا الدور صعبا للغاية، إذ إن باقي دول أوبك حينها لم تلتزم بالحصص الإنتاجية المفروضة لدعم الأسعار، ليقع بذلك حمل تخفيض كامل على السعودية وهو ما جعل إنتاجها يتهاوى من 10 ملايين برميل يوميا مطلع الثمانينات ليصل إلى 2.2 مليون برميل في منتصف عام 1985. وفي عام 1986 انهارت الأسعار، نظرا لأن المملكة كانت تستهدف رفع حصتها إلى فوق 5 ملايين برميل يوميا، وهو ما جعل باقي دول «أوبك» تبيع النفط بأسعار أقل من المملكة من أجل الحفاظ أو زيادة حصصها. وامتدت الحرب في عام 1986 لتشمل «أوبك» مع الدول خارج «أوبك»، إذ إن الإنتاج كان فائضا عن حاجة السوق حينها.
وكان لا بد من السعودية استخدام هذه الأداة العنيفة في ذلك الوقت لإجبار باقي دول «أوبك» على احترام الاتفاقيات المبرمة بخصوص الالتزام بالحصص الإنتاجية وسط تراجع الطلب العلمي وزيادة الإنتاج من خارج «أوبك». ونعود إلى تعريف كلاوسفيتز للحرب لنجد أن ما قامت به السعودية و«أوبك» في ذلك يندرج تحت وصف الحرب، حيث كانت هناك رغبات يحاول طرف إخضاع الآخر لها.
لكن هذه النظرية وهذه الحرب غير صالحة اليوم ولا تنطبق على ما يحدث في السوق كما يقول المحلل الكويتي المرزوق. والسبب في ذلك أن السعودية الآن لديها حصة مستقرة، فهي تصدر ما يقارب من 7 مليون برميل يومياً في الأسواق ولا يوجد لديها دافع للدخول في حرب لأخذ حصة أحد. ولعل الأمر الأهم هو أن غالبية دول «أوبك» اليوم (باستثناء السعودية) لا يوجد لديها سعة إنتاجية جاهزة تساعدها على زيادة صادراتها.
ويقول المرزوق: «أغلب دول أوبك الآن تنتج عند الحد الأعلى لقدرتها الإنتاجية ولو طلب منها زيادة صادراتها بشكل كبير فلن تستطيع، ولهذا ما الفائدة في أن يسعى طرف للحصول على حصص أكبر؟!» ومن بين الأمور التي تقصي فرضية الحرب هو أن «أوبك» على اتفاق حول إبقاء الأسعار منخفضة وجعل السوق يتحكم بها، وبما أن أغلب الأطراف راضية فلا يوجد فائدة من الدخول في حرب لإجبارهم على تنفيذ أمر كلهم متفقون عليه، كما يقول المرزوق. ويضيف: «هذه الفكرة حول حرب الأسعار يجب أن تموت لأنها لا تؤدي إلى أي مكان. يوجد اختلاف كبير بين ما يحدث الآن وهو الحفاظ على الحصة السوقية وجعل منتجك متنافسا وبين خوض حرب لإخضاع غيرك على الخروج من السوق والتخلي عن حصته لك وهذا الأمر الذي لا نراه كلنا».
هل السوق مقتنعة بعدم وجود حرب أسعار؟ يبدو ذلك فالأسعار لم تتفاعل مع إعلان تخفيضات السعودية أو العراق لأسعارها.