جوهر مشكلة مصر الاقتصادية التى تتفرع عنها جميع مشاكلنا فى أننا بلد، يوجد فيه اختلال مستمر بين الموارد المتاحة ذاتيا وحجم الاحتياجات الفعلية التى يحتاجها شعبنا. بعبارة أخرى نحن نعيش ونستخدم موارد أكثر مما نملك حقيقة، وهذا أمر لا يمكن أن يستقيم إلى ما لا نهاية. وهنا يكمن لب الداء أساسا . فكلما تزايدت احتياجاتنا الفعلية، بحكم تزايد سكان مصر وحقهم المشروع فى غذاء صحى كامل ومسكن ملائم وفرصة عمل منتجة وتعلم واف، إلى آخره، بينما قصرنا فى تنمية مواردنا الذاتية وتطويرها كلما تفاقمت الأزمة العامة وتفرعت إلى أنواع عديدة من الأزمات والمشاكل . وحكمة السياسة الاقتصادية تقاس دائما بمدى تقليل الفجوة بين الاحتياجات وحجم الموارد المتاحة ذاتيا وبمدى التحسن الحقيقى الذى يتحقق فى مستوى معيشة الشعب دون أن يستأثر بذلك طبقة أو فئة اجتماعية معينة. وتحت تأثير اللحاق بمستويات المعيشة الرغدة السائدة فى الدول الغربية، والانبهار بهذه المستويات، باعتبارها هدفاً للتنمية، فقد اخترنا نماذج معينة للتصنيع لا تتناسب إطلاقا مع مواردنا، ولا مع واقع الفقر وانخفاض مستوى معيشة أغلبية السكان . ولعل ذلك يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية. وارتبط بالنتيجة السابقة قضية هامة، وهى مدى فاعلية المدخرات المحلية فى تمويل عملية التنمية، حيث نجح الفكر التنموى الغربى فى إيهامنا بأن مستوى المدخرات المحلية متواضع ولن يكفى لتمويل برامج التنمية، وأنه مهما بذلنا من جهد فى تعبئة مدخراتنا المحلية، فإنها لن تنجح فى رفع معدلات الادخار المحلى بشكل ملموس يكفى لتغطية احتياجات الاستثمار. وتحت تأثير هذه الفكرة الخاطئة توسعنا فى الاعتماد على التمويل الخارجي. ولعل مشروع قناة السويس الجديد قد فجر الطاقات التمويلية لدى المصريين وأعاد الوعى التمويلى الذى فقدناه لمدة طويلة. وآن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا فى الاقتصاد، وألا نعير اهتماما بالروشتات الاقتصادية القادمة من الغرب وبالأخص من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى وغيرها من الروشتات التى تخرج من وزارة الخزانة الأمريكية ووكالات التصنيف الائتمانى .لأنهم يكيلون بمكيالين مختلفين . فكما هو الحال فى السياسة لمس العالم أجمع مدى خطورة هذا المسلك، ولم نتنبه إلى خطورته على الجانب الاقتصادى طوال عقود طويلة . وقد أثبتت الدراسات اللاحقة التى أجراها الصندوق نفسه وما خلصت إليه جميع الدراسات الجادة التى جرت فى هذا الشأن: أن تحرير أسواق رأس المال يؤدى إلى زعزعة الاستقرار، ولا يساعد بالضرورة على النمو. حتى إن وصفة «إجماع واشنطن الجديد» التى رسمها مايكل سبنس الحائز على نوبل فى الاقتصاد لم يأخذ بها صندوق النقد ولا يزال يصر على وصفته القديمة التى لا تتناسب مع التغيرات التى ألمت بالاقتصاد العالمى بعد الأزمة العالمية الأخيرة . وصفات الصندوق لا تتناسب مع العالم العربى سنة 2015، خاصة مع تعدد الأقطاب. فكما قلنا مرارا كان الصندوق السبب الرئيسى فى تدهور اقتصادنا وساعد على ضياع حلمنا . لقد سئم المصريون من العبارات التى رفعت من قبل خبراء الصندوق وأنصارهم مثل «التوازن، التكييف، تصحيح التشوهات، التناسب، التنمية» فكانت دائما مصطلحات يراد بها ضرورة رفع قدرة البلد المدين على الوفاء بأعباء دينه الخارجى وليس لزيادة قدرته على النمو ورفع مستوى معيشة سكانه. ولعل النداء الأخير الذى أوجهه إلى المسئولين بالابتعاد عن الصندوق هو نفس النهج الذى سار عليه كل من ماريو بليجر محافظ البنك المركزى الأرجنتينى الأسبق، ومدير مركز دراسات العمل المصرفى المركزى التابع لبنك انجلترا سابقا. وإدواردو ليفى ياياتى زميل معهد بروكينجز كتبا مقالة بعنوان «امنعوا صندوق النقد الدولى من دخول أوروبا». إن قروض صندوق النقد من الممكن أن تتحول إلى تركة ثقيلة من منظور السوق. وقد تعمل هذه القروض على تثبيط الإقراض الخاص الجديد لأعوام طويلة مقبلة. هذا تخوف فى محله من دخول الصندوق إلى أوروبا رغم أن 40٪ من المديرين التنفيذيين لصندوق النقد الدولى أوروبيون، وأن ثلث هؤلاء المديرين ينتمون إلى منطقة اليورو. ولن يعمل الصندوق لصالح الدول النامية بسبب العجز الديمقراطى الواضح فى صندوق النقد الدولى مما يمثل تحدياً خطيراً لشرعية سياسات الصندوق وقدرته على موازنة الأوضاع المتأزمة بفاعلية. فعندما حاول دومينيك شتراوس تصحيح مسار الصندوق، حيث تحرك بسرعة لإنشاء خط ائتمانى مرن للتعجيل بتوزيع الأموال، ومن دون شروط مرهقة. واقترح فرض ضريبة عالمية جديدة على المؤسسات المالية تتناسب مع أحجامها، فضلاً عن فرض ضريبة على أرباح البنوك والمكافآت. وحاول تشكيل الصندوق على هيئة طبيب للتمويل العالمي، بدلاً من شرطى يراقبه، انتهى به الأمر إلى نهاية مأساوية باتهامه بمراودة فتاة فندق عن نفسها.
وكان إلحاح الصندوق على إلغاء القيود المالية السبب المباشر للأزمة العالمية التى اندلعت فى عام 2008، كما ساعد تحرير الأسواق المالية وأسواق رأس المال فى أماكن أخرى من العالم فى نشر تلك الصدمة «المصنوعة فى الولايات المتحدة» إلى مختلف أنحاء العالم. وظلت آسيا متمسكة بالحذر فى التعامل مع الصندوق منذ أزمة العملة التى ألمت بها فى أواخر تسعينيات القرض الماضى . فبعد تلك الأزمة بات على صناع القرار السياسيين الآسيويين أن يفضلوا الموت على الاقتراض من صندوق النقد الدولى ولو من دون شروط، حتى إن كوريا الجنوبية عندما حاولت الاقتراض فى أعقاب انهيار ليمان براذر، اقترضت من بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى وليس من الصندوق. وكان التناقض صارخاً بين النصائح التى أسداها صندوق النقد الدولى لوزارة خزانة الولايات المتحدة فى أعقاب الأزمة المالية الأخيرة، ونصائحه إلى دول شرق آسيا إبان أزمتها فى 1997 . فقد قيل لدول شرق آسيا أثناء أزمتها إنها لابد أن ترفع أسعار الفائدة، بنسبة 25٪، و40٪، وأعلى من ذلك فى بعض الأحيان، الأمر الذى أدى إلى تخلف عدد هائل من المقترضين عن سداد ديونهم. أما فى الأزمة الحالية فقد بادر بنك الاحتياطى الفيدرالى فى الولايات المتحدة والبنك المركزى الأوروبى إلى تخفيض أسعار الفائدة. وعندما اقترح صندوق النقد العالمى ـ محقاً ـ الحاجة إلى بناء طريقة جديدة لإعادة هيكلة الديون (وهو إجراء عالمى لمعالجة حالات الإفلاس) بعد أزمة الأرجنتين، رفعت أمريكا الفيتو فى وجهه. وعندما تقدمت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية باتفاقية تحد من السرية المصرفية، رفعت إدارة بوش الفيتو فى وجهها أيضاً.. كذلك خاب ظن الصندوق فى الإجراءات التى اتخذتها الحكومة البريطانية مما حدا به إلى الاعتذار الرسمى عن هذا الانتقاد بل وصل الحال برئيسته بالقول «هل يتعين عليّ أن أجثو على ركبتـيّ؟» هكذا سألت مديرة صندوق النقد الدولى الإدارية كريستين لاجارد مراسل بى بى سى أندرو مار. كانت لاجارد تعتذر بعد أداء صندوق النقد الدولى الهزيل فى التكهن بأداء المملكة المتحدة الاقتصادى فى الآونة الأخيرة. وبشكل أكثر جدية، كانت تعتذر بسبب انتقادات الصندوق الأقدم عهداً لتدابير التقشف المالى التى أقرتها حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. والآن تقول لاجارد فى إطار تأييدها لتدابير التقشف البريطانى إنها زادت الثقة فى الآفاق الاقتصادية للمملكة المتحدة، وبالتالى حفزت التعافى الأخير. وقد تهرب صندوق النقد الدولى عن مسئوليته عن أخطاء أشد خطورة، بما فى ذلك فشله فى توقع كل الأزمات الكبرى فى الجيل الأخير، من أزمة المكسيك فى الفترة 1994-1995 إلى شبه انهيار النظام المالى العالمى فى عام 2008 . ولأن صندوق النقد الدولى يُعَد الوصى المختار على الاستقرار المالى العالمي، فإن فشله فى تحذير العالم واستباق الأزمات يشكل زَلة أشد خطورة كثيراً من موقفه من التقشف فى بريطانيا، مع تكاليف باهظة تحملها كثيرون، وخاصة الأكثر ضعفا وعُرضة للمخاطر. ولم يقدم الصندوق أى اعتذار بعد هذه الأخطاء، وبكل تأكيد ليس بالطريقة الـمُذِلّة التى شهدنها فى تصريح لاجارد الأخير. وقد اعترف المدير الإدارى للصندوق، هورست كولر، بأن فرض ضوابط مؤقتة على رأس المال من الممكن أن يوفر قدراً من الإغاثة ضد التدفقات المتقلبة من بقية العالم. والمفترض أنه كان يعترف آنذاك بأن الصندوق أخطأ عندما انتقد ماليزيا عندما فرضت مثل هذه الضوابط فى أوج الأزمة الآسيوية. وقد أثبتت الدراسات اللاحقة التى أجراها الصندوق نفسه وما خلصت إليه جميع الدراسات الجادة التى جرت فى هذا الشأن. وعلى مستوى المنهج العلمى أثبت روجوف وراينهارت بالوثائق أمثلة وفيرة لبلدان دخلت فى برامج صندوق النقد الدولى ثم انتهى بها الحال إلى العجز عن سداد ديونها وازدادت سوءا. وزعم بن بيرنانكى رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى فى الولايات المتحدة أن الأجانب كانوا يشترون الأوراق المالية الأمريكية لأنهم يثقون فى النظام الإشرافى المالى فى أمريكا وكانوا راغبين فى المشاركة فى الدينامية التى يتسم بها اقتصاد أمريكا. والآن أصبحنا نعرف أن كل هذا الكلام كان مجرد دعاية المقصود منها الحفاظ على استمرار تدفق الأموال الأجنبية، حتى تتمكن الأسر الأمريكية من الاستمرار فى تمويل أسلوب حياتها المسرف.
وعلى الجانب الآخر ساعدت وكالات التصنيف فى الولايات المتحدة فى استغفال العالم حين منحت عملاءها الأمريكيين تصنيف AAA، فى حين خفضت تصنيف المقترضين الأجانب بشراسة. فقد تمكنت بنوك الولايات المتحدة بهذا من تقديم معدلات عائد منخفضة للمقرضين الأجانب فى حين أرغمت المقترضين الأجانب على قبول أسعار فائدة عالية. وكان واضحا أن هذه التصنيفات والتقييمات كانت مشوهة إلى حد السخافة. ففى حين أعطت وكالة تصنيف أمريكية كبرى الشركات الأميركية تصنيف BBB فى المتوسط فى الأعوام الأخيرة، فقد حصلت التزامات الدين المضمونة القائمة على الأوراق المالية المضمونة بالرهن العقارى بسهولة على تصنيف AAA. وطبقاً لصندوق النقد الدولى فإن 80٪ من التزامات الدين المضمونة كانت مندرجة تحت هذه الفئة. وطبقاً للورقة البحثية التى أعدها افرايم بنميليك وجينيفر دلوجوتز من المكتب الوطنى للبحوث الاقتصادية، فإن 70٪ من التزامات الدين المضمونة حصلت على تصنيف AAAرغم أن الأوراق المالية المضمونة بالرهن العقارى التى بنيت عليها كان تصنيفها B+ فقط فى المتوسط، وهو التصنيف الذى كان من شأنه أن يجعلها غير قابلة للتسويق. وعلى هذا فقد أطلق الباحثان على عملية بناء التزامات الدين المضمونة (فن تحويل الرصاص إلى ذهب). وعلى الجانب الآخر يتدخل الصندوق والبنك فى قضايا لا تمت لعمله فى المنطقة العربية ويطالب آخرين فى أمريكا اللاتينية بالأخذ بنهج السياسة الإنتاجية ولا يطالبنا مثلا بالعودة إلى السياسة الصناعية . فالبنك الدولى مدافع لا يكل ولا يمل عن حقوق المرأة والمثليين. وفى زحمة روشتات الصندوق والبنك التى تركز على السياسة النقدية والمالية دون أى اعتبار للسياسة الصناعية يجعلهما أداة من أدوات خلق الاضطرابات فى كثير من بقاع العالم، فقد نجح الصندوق والبنك فيما فشلت فيه القوات المسلحة الأمريكية . علينا أن نعيد اهتمامنا بالصناعة من جديد، ونحن بهذا المسلك لا نشذ عن الآخرين الذين احرزوا تقدما فى التنمية فالسياسة الصناعية عادت لتصبح الموضة السائدة من جديد. لا شك أن هذه السياسة لم ترحل حتى فى البلدان الملتزمة رسميا بمبادئ السوق الحرة كان إحياء السياسة الصناعية من بين أسوأ الاستجابات للأزمة المالية والركود العميق من جانب المسئولين الرسميين. فقد عادت الحكومات مرة أخرى إلى استخدام إعانات الدعم، والتنظيمات، والاستثمار فى رأس المال، للتمييز بين الفائزين والخاسرين فى قطاعات الصناعة المختلفة. وآن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا. فلقد انخرط اثنان من الأكاديميين من بيركلي، وهما ستيفن كوهينوجون زيسمان، فى مناقشة مماثلة فى الولايات المتحدة فى الكتاب الذى اشتركا فى تأليفه تحت عنوان «مسائل التصنيع»، فزعما استحالة نشوء قطاع خدمات قابل للحياة فى غياب التصنيع. ولقد تفشى هذا الهوس فى الولايات المتحدة، حيث ذهب الديمقراطيون فى الكونجرس إلى حد التحالف مع جماعات الضغط المناصرة للصناعة فى إقرار التشريع الذى من شأنه أن يوفر الحماية والدعم المالى بهدف زيادة حصة الصناعات فى الناتج المحلى الإجمالي. وبسبب الأزمة المالية، تقبل العديد من الساسة هذه الحجة، فى ارتداد ظاهرى إلى وجهة نظر آدم سميث فى التأكيد على أن الخدمات المالية غير منتجة بل هدامة ـ ولابد من تقليمها من خلال التدخل الحكومي. ثم استنتجوا من هذا ضرورة التوسع فى الصناعات. والصين أوضح مثال على ذلك. فالقسم الأعظم من براعتها الفائقة فى مجال التصنيع يستند إلى المساعدات التى تقدمها الحكومة للصناعات الجديدة.