IMLebanon

أشياء ينبغي تحاشيها عند وقوع الأزمة المالية التالية

FinancialCrisis
فرديناندو جوليانو

منذ أن حلت دورة الأعمال التجارية محل المواسم باعتبارها المحرك الرئيسي لعجلة الحياة الاقتصادية، تعلمت البشرية التكيف مع حتمية حدوث حالات الطفرة والانهيار. لكن مثلما ناضل أسلافنا الزراع لمواجهة الظواهر الجوية بالغة الشدة، اشتعلت بشكل مفاجئ أيضا، أزمات مالية واسعة النطاق مرارا وتكرارا في كل من المجتمعات الصناعية وغير الصناعية. وكان على صناع السياسة أن ينقبوا عميقا في الماضي بحثا عن دروس وعبر في الوقت الذي كانوا يسعون فيه إلى احتواء تدافع العملاء لسحب الأرصدة من المصارف ومحاربة البطالة المتصاعدة.

لم تكن مرحلة الركود العظيم فترة استثنائية، وبعد التقلبات الاقتصادية الحميدة إلى حد كبير في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، فوجئ محافظو المصارف المركزية بالأزمة المالية التي ضربت عام 2007/2008. وكان رد فعلهم الفوري هو النظر إلى الوراء، إلى 80 عاما مضت، في الفترة التي شهدت اضطرابات الكساد العظيم.

في كتاب “قاعة المرايا” Hall of Mirrors، يقول باري إيتشينجرين ، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، “إن معرفة ما حدث في الثلاثينيات من القرن العشرين كان سلاحا ذا حدين بالنسبة إلى صناع السياسة اليوم. سمح إدراك السياسيين ومحافظي المصارف المركزية المتأخر بتفادي عديد من الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم، مجنبين العالم أزمة أكثر مأساوية”. لكن إيتشينجرين يعتقد أيضا أن نجاح الاستجابة الأولية يعني أن جهود الإصلاح توقفت في منتصف الطريق. وهذا ترك الغرب عرضة لصدمة مالية جديدة.

بوصفه باحثا رائدا في فترة الكساد العظيم وواحدا من المعلقين الحاذقين على الأزمة الحالية، يعتبر إيتشينجرين من أنسب الباحثين المؤهلين لمقارنة حالتي الركود المذكورتين، وكتابه غني بالحكايات – بما في ذلك صور المختصين الماليين الذين عملوا مرتين على جعل النظام المصرفي الأمريكي يجثو على ركبتيه – وهو ما يجعله من أكثر الكتب الممتعة.

ومع ذلك، تعد السياسة هي الاهتمام الرئيسي للمؤلف، التي، كما يجادل هو عن حق، حولت أزمة الثلاثينيات من القرن الماضي إلى كارثة. كان حكام المصارف المركزية عبر العالم يبجلون صنما اسمه معيار الذهب، وهو نظام قابلية التحويل الثابتة ما بين العملات والذهب الذي سيطر لعقود على النظام النقدي الدولي. ومن أجل الحفاظ على ما كان ينظر إليه على نطاق واسع على أنه مرساة للاستقرار، اختارت معظم السلطات النقدية رفع أسعار الفائدة خلال الأزمة، وهو ما أدى إلى تفاقم الركود.

ما كان ينبغي أن تسير الأمور هكذا. بتخليها عن الارتباط بالذهب في وقت مبكر، في عام 1931، عانت المملكة المتحدة أزمة أكثر اعتدالا من كثير من الدول الأخرى. أما قرار اليابان بأن تحذو حذوها، في ظل وزير المالية كوريكيو تاكاهاشي، فقد أدى إلى حصول انتعاش في غاية النشاط. في “قاعة المرايا” لا يوجد قدر يذكر من الثناء على هيربرت هوفر، رئيس الولايات المتحدة آنئذ. يكتب إيتشينجرين في كتابه “يمكن أن يكون هوفر قد فهم ما يلزم القيام به، لكن هذا لا يعني أنه يريد من الحكومة القيام بذلك”. وبمواجهته لأزمة مصرفية، كان الرئيس الأمريكي مترددا جدا في إشراك الاحتياطي الفيدرالي. بدلا من ذلك سعى إلى معالجة حالة الذعر بالطلب من المصارف الإسهام طوعا بأموال يمكن استخدامها حتى تحصل المصارف المعتلة على فترة راحة. لكن بما أن المشكلة كانت مشكلة انعدام ملاءة بقدر ما كانت مشكلة سيولة، أحجم عدد من المصرفيين عن التدخل. وقدمت “مؤسسة الائتمان الوطني” التي أنشأها هوفر فقط عشرة ملايين دولار من القروض في الفترة بين إنشائها في تشرين الأول (أكتوبر) 1931 حتى نهاية العام.

وبالنسبة لإيتشينجرين جاءت نقطة التحول في فترة الكساد العظيم في الولايات المتحدة مع تنصيب فرانكلين ديلانو روزفلت في الرابع من آذار (مارس) 1933. لكن هذا الأستاذ من بيركلي يرفض الفكرة التي تقدم بها كثير من الكينزيين، التي مفادها أن الرئيس روزفلت أنقذ الولايات المتحدة بفضل التزامه بالتحفيز في المالية العامة على نطاق واسع. ويكتب إيتشينجرين “كان هدف الرئيس هو تحقيق التوازن في الميزانية على الفور وبشكل كامل، وكذلك، إذا اقتضى الأمر، الركوب على ظهور مؤيديه”. ويجادل بأن إجراءات روزفلت الحازمة لإنقاذ المصارف وقراره بترك معيار الذهب في عام 1933 هما اللذان وضعا الولايات المتحدة على درب الانتعاش.ساعد الوعي بالأخطاء التي حصلت في الثلاثينيات من القرن الماضي القادة على إنقاذ الاقتصاد العالمي من أزمة بحجم مشابه لما حدث في عام 2008. فقد تقلص الناتج فقط لمدة عام قبل أن ينتعش بشكل حاد. وعانت الأسواق المالية، لكن النسبة المئوية للخسائر بالنسبة للأسهم الأمريكية كانت أصغر بكثير مما حدث في الثلاثينيات.

ويدًعي إيتشينجرين أن الفرق بين الأزمتين ليس له علاقة تذكر بالتنسيق الدولي. وهو بالأحرى متشكك في قمة مجموعة العشرين في لندن عام 2009، التي تم التهليل لها كثيرا، عندما أعلن جوردون براون، مضيف القمة ورئيس وزراء بريطانيا حينها، عن تحفيز مقداره تريليون دولار من أجل إنعاش الاقتصاد العالمي. ويجادل كتاب “قاعة المرايا” بشكل مقنع، بأن الزيادة في الإنفاق كانت سيئة التنظيم، وأن بعض البلدان كان يمتلك القدرة على الإنفاق بشكل أكبر، مثل ألمانيا، لكنها ساهمت بشكل أقل مما يجب.

ويكمن التفسير الحقيقي في سلوك مسؤولي المصارف المركزية. على وجه الخصوص، كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تحت إشراف بن برنانكي، وهو باحث مختص في الكساد العظيم، على أهبة الاستعداد لتوفير السيولة للولايات المتحدة والنظم المالية العالمية. ويرى إيتشينجرين أن الاحتياطي الفيدرالي كان من الممكن أن يرفع برنامجه للتسهيل الكمي بسرعة أكبر، الذي كان من الممكن أن يساعد الولايات المتحدة على تأمين انتعاش أسرع. لكن الاحتياطي الفيدرالي التزم في النهاية بشراء الأوراق المالية على نطاق غير محدود – عبر جولته الثالثة من التسهيل الكمي. وعدم إقدام البنك المركزي الأوروبي، الذي بدأ فقط أخيرا برنامجا لشراء الأصول على الرغم من التضخم المنخفض بحدة، يلقي ضوءا أفضل بكثير على الاحتياطي الفيدرالي في العصر الحديث.

ومع ذلك، كان لردة الفعل الفورية للسياسة في القرن الحادي والعشرين عيوبها، وهذا ربما يعد الدرس الأكثر أهمية الذي يمكن أن يقدمه الكتاب. فقد نتج عن حالة الهبوط الأكثر إيلاما خلال الثلاثينيات إصلاحات جذرية، مثلا، في النظام المصرفي، بما في ذلك قانون جلاس – ستيجل عام 1933 في الولايات المتحدة، الذي فرض على المصارف الفصل بين المصرفية التجارية والمصرفية الاستثمارية الأكثر خطورة. ويجادل الكتاب بشكل صحيح، بأن تراث الإصلاح للأزمة الحالية أضعف بشكل كبير: لا تزال المصارف الكبيرة تهيمن على الساحة المالية، وليس بمقدور قانون دود – فرانك عام 2010 في الولايات المتحدة، أو التوصيات الواردة في تقرير ليكانين عام 2012 في الاتحاد الأوروبي، أن تضمن أمن وسلامة النظام المالي.

لكن لكتاب “قاعة المرايا” عيوبه. ففي حين إنه يتضمن ثلاثة فصول في النهاية تتحدث عن أزمة الديون في منطقة اليورو، إلا أن تركيزه يظل إلى حد كبير على الولايات المتحدة. هذا يعد عارا، على اعتبار أن حماقات السياسة الاقتصادية والنقدية في أوروبا أسوأ بكثير من تلك التي كانت على الجانب الآخر من الأطلسي. ويصر المؤلف على أن إدخال اليورو كان خطوة تزيد على الحد اللازم، وأن التغييرات الهيكلية التي تم تقديمها منذ وقوع الأزمات، بما فيها الاتحاد المصرفي، كانت غير كافية. ويكتب أيضا “استمرت مهمة إنجاز البيت النقدي لأوروبا في أن تشبه مشروع ترميم المنزل الذي لا ينتهي أبدا”. لكن إيتشينجرين ابتعد عن بحث المسألة المهمة المتعلقة بما إذا كان من الأفضل لأوروبا أن تنهي حلمها بالعملة الموحدة في ظل غياب إصلاحات أعمق.

ويعطي المؤلف تفاصيل كافية حول العواقب طويلة الأمد للاستجابة غير الكافية من منطقة اليورو – وإلى حد ما من الولايات المتحدة – للأزمة. وكما أشار أليكساندر فيلد، وهو مؤرخ اقتصادي في جامعة سانتا كلارا في كاليفورنيا، واحدة من النعم الرئيسية لبرنامج روزفلت للاستثمار العام كانت تعزيز نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة. إن فشل المشرِّعين في منطقة اليورو في بذل جهد مماثل يعني أن اتحاد العملة يتخلى عن فرصة فريدة لجعل اقتصاده أكثر كفاءة على المدى الطويل.

على أي حال، تعتبر تلك الأخطاء طفيفة عند مقارنتها بالطموح والشمول لهذا العمل الرائع. إن مصير “قاعة المرايا” هو العمل على تغيير طريقة تفكيرنا في فترة الكساد العظيم وفترة الركود العظيم. سيناقش المعلقون والباحثون فرضيته هذه لسنوات عديدة مقبلة.